ثقافة وفنون

في زمن التنويع .. الثقافة صناعة ومصدر دخل مستديم

في زمن التنويع .. الثقافة صناعة ومصدر دخل مستديم

في زمن التنويع .. الثقافة صناعة ومصدر دخل مستديم

منذ نحو عامين، فقدت براميل البترول نحو نصف قيمتها في السوق العالمية، ما وضع الدول المنتجة للنفط أمام أزمات وتحديات، جعلت الجميع - بمن فيهم المثقفون - يثيرون أسئلة عن عودته مجدداً إلى مجده السابق، وأسئلة أخرى على غرار: كيف سيكون المستقبل في ظل الأسعار الحالية؟ بل كيف سيكون حال الثقافة بعد ترشيد النفقات والقرارات الاقتصادية الأخيرة؟

سؤال اللحظة الراهنة
منذ أشهر وسؤال لا يزال صداه يتكرر في الوسط الثقافي: هل نهاية عصر الاعتماد على النفط هو نهاية الثقافة؟
قد يشيح بعض المثقفين بأنظارهم عن هذا السؤال، بحجة أن المملكة مرت بظروف اقتصادية مماثلة لهذه الظروف، التي تعرضت فيها المنطقة لحروب وأزمات مالية، ما لبث برميل النفط بعدها أن واصل ارتفاعه، لكنهم بذلك يغضون النظر عما تشهده المملكة من تحولات اقتصادية واجتماعية، ممثلة في برنامج التحول الوطني، ورؤية المملكة الطموحة 2030.

تونس نموذجاً
ربما ليس بالإمكان النظر بجدية إلى أسئلتنا دون القراءة بتمعن تجارب ثقافية أخرى، ومنها التجربة التونسية، فمن المعروف أن إنتاج تونس الخضراء من النفط متواضع، يقطنها شعب منفتح على الثقافات الأخرى، يحتضن تيارات أدبية وفنية مختلفة المشارب، ويجمعهم الفكر المبدع.
تقول هذه التجربة الثرية إن تونس بعدما خرجت من حقبة الحماية الفرنسية انطلقت نحو تأسيس المسارح ودور عرض السينما والمطابع وتنمية المشهد الثقافي، والاستثمار في الإنسان المثقف والمبدع، لكن الظروف الاقتصادية أوائل التسعينيات أسهمت في هجرة العقول المبدعة إلى الخارج، خصوصاً دول الخليج وأوروبا، التي توفر للمبدع أدواته وبيئته التي تمكنه من إطلاق العنان لإبداعه.
فالمثقف لم يعد ملزماً بالبقاء في بيئة لا توفر له الظروف المناسبة لإطلاق إبداعه، لا توفر له دخلاً يكفل له ولعائلته العيش الكريم، يمكّنه من الانطلاق بأريحية نحو عالم الفكر والثقافة.
وعلى سبيل المثال؛ هناك فنانون تونسيون كُثر، يعيشون اليوم في مصر ودول الخليج، كذلك الأمر بالنسبة لدور النشر، التي أصبحت تركز ثقلها وتجارتها على معارض الكتاب في الدول ذات الاقتصاد القوي، الذي تدعمه عائدات نفطية عالية، الشيء ذاته بالنسبة للمهرجانات والمسابقات التي تقدم امتيازات مغرية.
يمكن اختصار الدروس المستفادة من التجربة التونسية في جملة واحدة فقط، وهي أن: رأس المال هو المحرك الرئيس للعملية الثقافية برُمتها.

الجزائر .. والمليون شاعر
بالنظر إلى الجزائر، عضو منظمة "أوبك"، والدولة المترامية الأطراف التي تمتلك احتياطيات نفطية تتجاوز 12 مليار برميل، أخرج هذا البلد مثقفين مبدعين، وصل أدبهم الخلاق إلى منطقة الخليج العربي، بل من الإجحاف القول إن أدبهم "وصل"، وإنما يجب القول إنه "تغلغل" في المشهد الثقافي العربي، وأصبح يُنظر إلى الثقافة الجزائرية بانبهار وإعجاب، ولا أدل على ذلك من معرفتنا وعشقنا لأدب الروائيين أحلام مستغانمي وواسيني الأعرج.
وهنا ثمة بون شاسع، فعلى الجهة المقابلة، في جمهورية موريتانيا العربية، بلد المليون شاعر، ثمة اقتصاد يعاني في بنيته الأساسية، لكن المشهد الثقافي هناك لا يزال يسير بخطى متقاربة، بالتأكيد لا يحقق قفزات تمكنه من الازدهار عربياً وعالمياً، لكنه يحاول.
ومع الأسف؛ شعراء موريتانيا اليوم معزولون عن المشهد الثقافي العربي، لم يلامسوا بإبداعاتهم وجدان جيرانهم العرب، فضلاً عن مملكتنا التي تفصلنا عنهم آلاف طوال من الكيلومترات، بدلالة عدم معرفة المواطن العربي بأسماء علماء وأدباء هذا البلد الشقيق، أو أحد شعرائه المليون.

الثقافة في قطر .. أول المتضررين
كشفت صحيفة "فاينانشيال تايمز" أخيراً عن أثر انخفاض أسعار النفط الذي أرخى بثقله على الموازنة العامة القطرية، ففي وقتٍ تسعى فيه الدولة إلى تنويع مصادر الدخل، قلّصت بالمقابل عدد العاملين في متاحف قطر، بل أقفلت محطة "الجزيرة أمريكا" الفضائية، المشروع الذي تخطت تكلفته ملياري دولار منذ إنشائه قبل نحو أربعة أعوام. قطر تستهدف في الظروف الحالية خفض النفقات، وفي المحصلة؛ كان القطاع الثقافي أول المتضررين من هذه الخطة، دون أن تتضح ما إذا كانت الدولة ستسير على النهج ذاته هذا العام، أم ستعاود الثقافة نشاطها هناك.

عوائد الثقافة أعلى من "الاتصالات"
الثقافة بأدواتها كافة أحد أهم المحركات الرئيسة في الولايات المتحدة، في حين، تعتبر عوائد الثقافة في الدول العربية متدنية، لعل السبب الرئيس في ذلك أن أغلبية البلدان العربية لا تنظر إلى هذا القطاع كجهة تنموية محركة للاقتصاد، بل إن بعض البلدان تتعامل معه كنوع من الكماليات بكل أدواته وفروعه.
صناعة الثقافة في الصين على سبيل المثال؛ ولدت عوائد بلغت 296 مليار دولار في عام 2013، وهو ما يعادل 3.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لثاني أكبر اقتصاد في العالم. وإذا ما أضيفت الاستثمارات في قطاع البحوث إلى الحراك المالي الثقافي، فيمكن القول إن الصين تمتلك اقتصاداً ثقافياً معرفياً.
ما يثير الغرابة – ربما – أن أول مسح ثقافي عالمي نشرت نتائجه منظمة "اليونيسكو" أواخر العام الماضي، أظهر أن القطاعات الثقافية والإبداعية تسهم في 3 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، وتوظف 29.5 مليون شخص في العالم.
بينما تصل عوائد الأوساط الثقافية والإبداعية من إعلانات وهندسة معمارية وكتب وألعاب إلكترونية وموسيقى وسينما وصحف ومجلات وعروض حية وتلفزيون وفنون بصرية إلى 2250 مليار دولار، أي أكثر من عوائد خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية. وبحسب الدراسة، فإن هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن القطاعات الثقافية والإبداعية تشكل محركاً أساسياً لاقتصاد الدول المتطورة والنامية، وهي جزء من القطاعات التي تعرف أسرع نمو، كما أن هناك سبيلاً للاستفادة بالكامل من قدرات الثقافة في قيادة الاقتصادات.

ازدهار يلوح بالأفق
رغم التجارب العربية التي لا تبدو جميعها مطمئنة فيما يخص الثقافة، إلا أن "رؤية 2030" للمحور الثقافي تبدو مطمئنة إلى حد كبير، خصوصاً بعد إنشاء الهيئة العامة للثقافة، وما سبقها وتلاها من خطط تم الإعلان عنها، تشمل: إنشاء أكبر متحف إسلامي في العالم، ومضاعفة عدد المواقع الأثرية المسجلة في قائمة "اليونيسكو"، وإنشاء مجمع ملكي وأكاديمية للفنون، وتأسيس الفرقة الوطنية الموسيقية السعودية، وتأسيس مدينة إعلامية وأخرى للإنتاج الإعلامي، وإعادة مهرجان المسرح السعودي، فضلاً عن دعم النوادي الأدبية وجمعيات الثقافة، وتأسيس مراكز حاضنة للشباب والمبدعين.
نصت الرؤية أيضاً على دعم جهود المناطق والقطاعين غير الربحي والخاص في إقامة المهرجانات والفعاليات، وتفعيل دور الصناديق الحكومية في الإسهام في تأسيس وتطوير المراكز الترفيهية، وتشجيع المستثمرين السعوديين وغيرهم الاستثمار الثقافي والترفيهي، وعقد شراكات مع شركات الترفيه العالمية، وتخصيص الأراضي المناسبة لإقامة المشروعات الثقافية والترفيهية من مكتبات ومتحف وفنون وغيرها، والعمل على دعم إيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوعة تناسب جميع الأذواق والفئات.
إن التحديات الأخيرة تدعونا إلى التمعن في "رؤية 2030" للثقافة، التي تبعث على التفاؤل، وإن نجحت كما يرجى لها، فستؤدي حتماً إلى تحول ثقافي فعال.
فتطوير البنية التحتية لقطاع الثقافة سيطور مستوى معيشة المواطن السعودي، كما سيسهم في تأسيس مرحلة ثقافية وأدبية جديدة، تعيد صياغة الخطاب الثقافي بما يعزز صورة المملكة، ويليق بتاريخها ومخزونها الثقافي العريق الذي لا يمكن أن يُمحى أو يندثر.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون