FINANCIAL TIMES

ألمانيا أمة متوترة تشعر بالخطر عقب التفجير الأخير

ألمانيا أمة متوترة تشعر بالخطر عقب التفجير الأخير

الشاحنة المستخدمة في دهس الناس في برلين.

في شباط (فبراير) الماضي، جرى تصنيف أنيس العامري، وهو لاجئ تونسي له ماض إجرامي، رسميا من قبل السلطات الألمانية بأنه إرهابي محتمل. لمدة ستة أشهر من هذا العام كان تحت مراقبة الشرطة شبه المستمرة. الآن المواطنون يشعرون بالقلق حول ما ينتظرهم في المستقبل، عقب اتهامه بتنفيذ الهجوم على سوق عيد الميلاد في برلين، في هجوم نتج عنه 12 قتيلا وعشرات الجرحى، وكشف عن أوجه القصور الخطيرة في طريقة تعامل أجهزة المخابرات مع الإرهاب. كل ذلك كان بلا جدوى. اختفى العامري تحت الأرض ولم يظهر إلا قبل أربعة أيام بصفته الرجل الذي يعتقد المحققون أنه اندفع بإحدى الشاحنات إلى داخل سوق عيد الميلاد في وسط برلين، ما أسفر عن مقتل 12 شخصا. عملية المطاردة الواسعة على مستوى أوروبا للعامري وصلت إلى نهاية دموية في ميلانو، عندما قتل في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة الإيطالية، ولكن وفاته لا تجلب خاتمة تذكر بالنسبة لألمانيا. لا تزال البلاد تحاول فهم الكيفية التي يمكن من خلالها لشخص معروف كان على رادار السلطات منذ أشهر أن يتمكن من الإفلات وتنفيذ مثل هذا الهجوم المميت. ملحمة العامري أمر محرج للغاية لأجهزة الشرطة والمخابرات في ألمانيا، وأحدثت هزة في الطبقة السياسية قبل أشهر فقط من انتخابات البرلمان التي ستحدد مسار ألمانيا في المستقبل، ويمكن أن تتحول إلى استفتاء حول سياسات أنجيلا ميركل نحو اللاجئين وآثارها على أمن البلاد. اعترفت ميركل بالقضية، وكما قالت فإن قضية العامري "تطرح عددا من الأسئلة"، وليس فقط عن الجريمة نفسها، بل عن الوقت الذي كان قد أمضاه في ألمانيا منذ وصوله في تموز (يوليو) من العام الماضي. وأضافت أن الحكومة سوف "تدرس عن كثب" ما إذا كانت القوانين في حاجة للتغيير في ضوء النتائج. بالنسبة للمستشارة التي سوف تسعى في العام المقبل لولاية رابعة، لا يمكن أن تكون الأمور التي على المحك أعلى من ذلك. الشكوك التي تحيط بقرارها عام 2015 بفتح حدود ألمانيا لمئات الآلاف من طالبي اللجوء كانت عميقة في الأصل. مع كل هجوم إرهابي يرتكبه أحد المهاجرين، ذلك الاستياء ينمو حتما. في الوقت الحاضر، تم تخصيص أقسى الانتقادات نحو الأجهزة الأمنية في ألمانيا. حيث قال ارمين لاتشيت، نائب رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي التابع لميركل، في حديث مع الإذاعة الألمانية يوم الخميس: "من المعلومات التي تم الحصول عليها، الأمر الصاعق هو طريقة عمل السلطات هنا". وتحدث كريستيان ليندنر، رئيس الحزب الديمقراطي الحر الليبرالي، عن "أخطاء كارثية". وقال: "كان هناك فشل للحكومة، وهذا أمر لا يمكن السكوت عليه". يرى كثيرون ذلك على أنه مبالغة كبيرة. يقول كريستيان تاتشوف، إخصائي العلوم السياسية في جامعة فراي في برلين: "لا يمكن أبدا أن يكون لديك أمن بنسبة 100 في المائة في بلد مثل ألمانيا، حيث إنها ليست الهدف الوحيد. في أي بلد ديمقراطي يجب أن تكون لديك الضوابط والتوازنات، وأحيانا تأتي على حساب الأمن". "فقدان البراءة" يشعر الناس في برلين بالتأكيد بأمان أقل بكثير الآن مما كانت عليه الحال قبل أسبوع. كان القلق واضحا بين حشود المشيعين في أنحاء ميدان Breitscheidplatz، ميدان في ظلال الكنيسة التذكارية للقيصر فيلهلم في برلين، حيث وقع هجوم يوم الإثنين في السوق، والمغطى الآن بالشموع والزهور وبطاقات التعزية. تقول ساندرا، التي تعمل مصففة للشعر، إنها كانت في سوق عيد الميلاد قبل نصف ساعة فقط من الادعاء بأن العامري اندفع بشاحنة مسروقة نحو الحشد. وتقول: "ألمانيا تعتبر الآن غير آمنة تماما كما هي الحال في كل مكان آخر. إنها مثل فقدان البراءة". بالنسبة لميركل، الخطر الذي أوجده غضب يوم الإثنين هو أنه يقوض مصداقية العقد الاجتماعي الذي قدمته للشعب الألماني. من ناحية أخرى، طلبت منهم المشاركة في مهمة وطنية لدمج مليون لاجئ دخلوا ألمانيا منذ بداية عام 2015، وهي مهمة شبهتها بالتحدي المتمثل في إعادة توحيد ألمانيا. من جهة أخرى، فإنها وعدت بأن هذا التدفق الهائل يمكن استيعابه من دون الإضرار بالأمن. في محاولة لإقناع الناس بأنه يمكنها أن تحقق ذلك، مالت ميركل بشدة إلى اليمين، حيث كبحت إمكانية الوصول إلى اللجوء، ووعدت بعمليات ترحيل أسرع للمهاجرين الذين رُفضت طلباتهم للحصول على حماية بصفتهم لاجئين، والذين يمثلون "تهديدا للسلامة العامة" - مثل المجرمين والإرهابيين المحتملين. وقد وسعت أيضا المراقبة بالفيديو في الأماكن العامة، ومنحت مزيدا من الأموال والمعدات والصلاحيات إلى الشرطة، بل إنها حتى اقترحت حظر استخدام النقاب. تم تصميم هذه السياسات لتهدئة صفوف الساخطين من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ومنع مزيد من حالات الانشقاق والذهاب إلى حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو حزب مغرور يميني يسعى لوضع ضوابط صارمة على الهجرة، وفاز بمقاعد في 10 برلمانات إقليمية في البلاد. تبين حالة العامري مدى صعوبة تحقيق تلك الوعود. حاولت السلطات ترحيله لكنها فشلت؛ لأنه ليس لديه جواز سفر. وتم التحقيق معه حول الإرهاب، ولكن لم يتم قط توجيه تهم إليه. كانت هناك أدلة وافرة لربطه بالشبكات الإسلامية المتطرفة، ولكن ليس بما يكفي لتبرير اعتقاله. حالة العامري تعتبر الأكثر إحراجا؛ لأنها تأتي بعد سلسلة من الحوادث التي هزت الثقة العامة بالأجهزة الأمنية. أمر وزير الداخلية الألماني توماس دي مايزيير بإجراء تحقيق في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بعد حادثة انتحار جابر البكر في زنزانته، وهو سوري يبلغ من العمر 22 عاما مشتبه بالإرهاب بالتخطيط لهجوم بقنبلة على مطار برلين. وكانت وفاته نكسة كبيرة بالنسبة للذين يحققون في أنشطة "داعش" في ألمانيا. بعد ذلك كان هناك حالة حسين ك، وهو أفغاني يبلغ من العمر 17 عاما اعتقل في وقت سابق من هذا الشهر في مدينة فرايبورج للاشتباه في اغتصاب وقتل طالبة في سن المراهقة. وتبين لاحقا أنه كان قد أدين بتهمة الشروع في القتل في اليونان عام 2013، وحكم عليه بالسجن 10 سنوات في السجن. أطلق سراحه عام 2015 بإفراج مشروط، ومن ثم اختفى وجاء إلى ألمانيا. وكان جهاز المخابرات الألمانية في الأصل في ورطة مع الجمهور بعد أن اتضح أن BND (جهاز المخابرات الأجنبية في ألمانيا) ربما يكون قد ساعد وكالة الأمن القومي الأمريكي على التجسس على حلفاء ألمانيا في الاتحاد الأوروبي. وكانت هناك أيضا اتهامات بالفشل حول التحقيق في National Socialist Underground، وهي جماعة إرهابية نازية يمينية متطرفة قتلت 10 أشخاص بين عامي 2000 و2007. قضية العامري يمكن أن تُحدِث مزيدا من الأضرار. وصل هذا الشخص البالغ من العمر 24 عاما إلى ألمانيا في تموز (يوليو) عام 2015، لكن وصوله لم يطلق أجهزة الإنذار لدى السلطات، على الرغم من أنه كان قد قضى أربع سنوات في سجن إيطالي بتهمة ارتكاب جرائم بما في ذلك الحرق المتعمد. في غضون أشهر، كانت السلطات الألمانية قد قامت بتصنيفه بأنه "خطير" - متشدد يعتقد أنه يمكن أن ينفذ هجوما إرهابيا. من المفترض أن يكون نحو 200 شخص يشكلون خطرا في ألمانيا تحت مراقبة الشرطة المستمرة من الأشخاص غير المحتجزين. وكما يقول تاتشوف: "في الواقع ليس هناك ما يكفي من الضباط لمراقبتهم جميعا. إنه أمر مكلف للغاية من حيث القوى البشرية والمعدات". العامري، الذي تنقل باستمرار في جميع أنحاء ألمانيا باستخدام هويات مزيفة، كان من الصعب بشكل خاص تتبعه. نظام إنفاذ القانون اللامركزي في ألمانيا، التي تخوَّل فيه صلاحيات الشرطة الاستخبارات إلى الولايات الاتحادية الـ 16، لا يساعد. تم تصميم هذا النظام لمنع ظهور قوى تشمل عموم ألمانيا مثل جهاز الجستابو في الحقبة النازية أو ستاسي في ألمانيا الشرقية. التعاون بين خليط من مختلف الوكالات يمكن في بعض الأحيان أن يكون غير موجود. كلاوس بوويون، وزير داخلية ولاية سارلاند الصغيرة، دعا أخيرا إلى قاعدة بيانات جنائية اتحادية واحدة لتحسين تبادل المعلومات، لتحل محل 16 نظاما مختلفا مستخدما الآن. وقال يواكيم هيرمان، وزير الداخلية في بافاريا: "علينا أن نجعل نظم بيانات المقاطعات متوافقة معا". وأضاف: "هذه مهمة لا بد من التعامل معها على وجه السرعة". في عام 2004، أنشأت الحكومة مركزا مشتركا لمكافحة الإرهاب، GTAZ، لإجراء تنسيق أفضل لجهود مكافحة الجريمة بين السلطات الاتحادية والولايات، ولكن ما زال هناك الكثير الذي يتعين القيام به. يقول يواكيم كراوسه، رئيس مركز السياسة الأمنية في جامعة كيل: "الاستعداد لمشاركة المعلومات، خصوصا بين أجهزة الاستخبارات المحلية للمناطق المختلفة، ليس دائما رائعا إلى هذه الدرجة". روابط مع المتطرفين في آذار (مارس) الماضي، بدأت السلطات في التحقيق مع العامري للاشتباه في قيامه بالتخطيط لعمل إرهابي، ووضعته تحت المراقبة. قالت وسائل الإعلام الألمانية إن الاتصالات التي تم اعتراضها تُظهر أنه كان قد قدّم نفسه باستمرار لتنفيذ هجوم انتحاري محتمل، بينما قال أحد مُخبري الشرطة إنه كان قد خاطبه بشأن شراء أسلحة. لكن لم تكُن هناك أدلة كافية لاعتقاله. كما تم ربط التونسي أيضاً مع الداعية المتشدد أبو ولاء، الذي اعتقل في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، للاشتباه في قيامه بتجنيد الناس للقتال مع "داعش" في العراق وسورية، لكن مرة أخرى لم تكُن هناك أدلة كافية لاعتقال العامري. السلطات الألمانية تجد من الصعب التعامل مع الأشخاص الخطرين أو المحرضين Gefährders: في معظم الحالات لم يرتكبوا بعد أي جريمة؛ لذلك لا يُمكن توجيه الاتهام لهم. لكن الذين جاءوا إلى ألمانيا كلاجئين يُمكن ترحيلهم. هذا ما حاولت السلطات فعله مع العامري. في حزيران (يونيو) الماضي، رُفض طلب لجوئه وبعد ذلك بفترة قصيرة وُضع في مركز احتجاز اللاجئين الذين على وشك أن يتم ترحيلهم. لقد تم إطلاق سراحه بعد بضعة أيام فقط. الجهود المُعيقة لترحيله كانت افتقاره لجواز سفر، ورفض السلطات التونسية الاعتراف به على أنه مواطن تونسي. في الوقت نفسه، النيابة العامة في برلين كانت تستمر في مراقبة العامري، بعد الحصول على معلومات أنه كان يُخطط لعملية اقتحام بهدف سرقة المال من أجل الأسلحة. على مدى أشهر، كان هاتفه مراقبا، وكان يخضع لمراقبة على مدار الساعة. لكن المراقبة توقفت في أيلول (سبتمبر) الماضي، عندما لم تجد السلطات أي أدلة على أنشطة إرهابية. في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، قارن مسؤولون في مركز مكافحة الإرهاب المشترك الملاحظات حوله للمرة الأخيرة. بعد فترة وجيزة، اختفى عن الأنظار. بالتأكيد لم تكُن هذه هي المرة الأخيرة التي تسلل فيها العامري من الشبكة. السلطات مرة أخرى تعرضت للضغط يوم أمس لشرح كيف تمكن التونسي من السفر دون عوائق من برلين إلى ميلانو. وعدت ميركل يوم الجمعة الماضي، بأنها سوف "تفعل كل شيء" ممكن لحماية ألمانيا من مزيد من الهجمات، لكن هذا ربما لن يكون كافيا لطمأنة الأشخاص مثل ساندرا في ميدان Breitscheidplatz. فهي تقول إن حياتها تغيرت منذ يوم الإثنين. وتضيف: "أشعر الآن بقلق أكبر بكثير من قبل، ودائما أشعر بالتوتر والخوف. على ما يبدو فإنه لن يعود أي شيء أبدا إلى ما كان عليه".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES