FINANCIAL TIMES

حملة عالمية لتضييق الخناق على ملاذات «الأوفشور» الضريبية

حملة عالمية لتضييق الخناق على ملاذات «الأوفشور» الضريبية

القواعد الجديدة لتبادل البيانات المالية عبر الحدود من المُقرر أن تكشف عن المتهربين من الضرائب وتضغط على الملاذات، لكن، مع قيام المستثمرين بشراء وتخزين الأصول المُكلفة للتهرب من الدفع، هل سينجح المُخطط؟ شاطئ وان كايبل، المُطل على الرمال البيضاء والمياه الفيروزية، هو أحدث عمارة سكنية على ساحل المحيط يتم بناؤها على ساحل جزر البهاما المُشمس، لكن ميزته الأبرز ليست الجمال الطبيعي للمناطق المحيطة به، بل تكمن في الخصوصية المالية التي يُقدّمها للمستثمرين الذين يحاولون التهرّب من الحملة الوشيكة على التهرّب من الضرائب. جيسون كينسيل، المطوّر العقاري، يقول إن ثُلثي زبائنه، ولا سيما من أوروبا وكندا، تجتذبهم حقوق الإقامة. فهذه الحقوق تسمح لمُشتري العقارات بإخبار المصارف التي يتعاملون معها أن مقرّهم الضريبي هو جزر البهاما. "إنها حافز كبير. الناس لا يحبون دفع الضريبة في بلادهم". يقول ريان بيندر، وزير الخدمات المالية السابق على الجزر، "إن الهدف ينبغي أن يجعل جزر البهاما بمنزلة موناكو منطقة البحر الكاريبي". وقد أخبر أعضاء البرلمان في الصيف، أن تقديم إقامة ضريبية للأثرياء من شأنه إيجاد شريان الحياة للاقتصاد في جزر البهاما في الوقت الذي أدت فيه الحملة العالمية على التهرّب إلى تآكل أعمالها التقليدية كمنطقة للأفشور. الوقت ينفد بالنسبة إلى المستثمرين الذين يُريدون تفادي حملة شفافية تهدف إلى الضغط على المتهربين من الضرائب لإلغاء وجودهم، فبحلول نهاية العام، ستكون البلدان من ألبانيا إلى فانواتو قد أصدرت تعليمات إلى شركات الخدمات المالية بأن تبدأ بجمع التفاصيل عن الأرصدة المصرفية، والفوائد، وأرباح الأسهم، والدخل من منتجات التأمين، التي يحصل عليها العملاء الذين يعيشون في الخارج. ستبدأ البيانات باجتياز العالم اعتباراً من أيلول (سبتمبر) المقبل، لتنتهي في نهاية المطاف في مصلحة الضرائب لموطن المستثمر - ومن المحتمل أن تتسبب في إجراء تحقيقات. هذه الخطوة العالمية تفرض انقطاعا حاسما عن الالتزام الذي تعمل به عشرات الملاذات الضريبية منذ أمد طويل لحماية خصوصية عملائها. الجزر، والدول الصغيرة والإمارات التي بنت ازدهارها على السرية، ستضطر جميعا إلى الانفتاح. الولايات المتحدة قامت بالخطوة الأولى: "قانون الامتثال الضريبي للحسابات الخارجية" "فاتكا" لعام 2010 أجبر المصارف الخارجية على البدء بتسليم بيانات عملائها أو مواجهة ضريبة بنسبة 30 في المائة. أكثر من 100 بلد آخر من الصين إلى جزر كوك حذت حذوها، متعهدةً بتبادل المعلومات المصرفية من خلال نظام معروف باسم معيار الإبلاغ المشترك". بموجب قانون فاتكا ونظام معيار الإبلاغ المشترك، سيتم تحويل المعلومات تلقائياً، وهو ما يُمثّل تغييرا لا يستهان به فيما يتعلق بجهود الشفافية السابقة التي كانت تقتضي أن يكون لدى المحققين سبب وجيه لطلب المعلومات الضريبية من الحكومات الأخرى. بعد أعوام عندما كانت الحملات المتعاقبة تُشبه لعبة القط والفأر بين السلطات الضريبية والمتهرّبين، تمت الإشادة بالمبادرات الأحدث باعتبارها فتحا مهما، وإن كان فتحا تعرض للضعف بسبب اعتماد الولايات المتحدة نظاما مختلفا عن بقية العالم. حملة الشفافية كان لها تأثير كبير في الأموال – التي تشير التقديرات إلى أنها في حدود عشرة تريليونات دولار - المُحتفظ بها في مناطق الأفشور. في الوقت الذي انحنت فيه المعاقل السابقة للسرية من سويسرا إلى بنما أمام الضغط الدولي، مليارات الدولارات تتنقل حول العالم الآن بحثاً عن ملاذات آمنة تماما في الوقت الذي تتقلّص فيه الخيارات. الانتقال إلى الداخل البنك المركزي لجزر البهاما أعلن في أيار (مايو) الماضي، أن الضغط من أجل الشفافية الضريبية العالمية يتسبب "في تحوّل استراتيجي كبير من إدارة الثروات من الخارج إلى الداخل" في كثير من المناطق، بما في ذلك المنطقة الخاصة بها. تقدير من مجموعة بوسطن الاستشارية يُرفق رقما مع هذا الاعتقاد، حيث يقول "إن الثروات الموجودة في مناطق الأفشور التي يحتفظ بها المستثمرون في البلدان المتقدّمة - أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان - تراجعت بنسبة 3 في المائة في عام 2015". كثير من هذا كان ستتم إعادته إلى الوطن باستخدام العفو الضريبي الذي جمع عشرات المليارات من الدولارات للحكومات في كافة أنحاء العالم. من إندونيسيا إلى إيطاليا وفرنسا وفيجي، تم إعادة ما لا يقل عن 55 مليار يورو. خدمة معالجة البيانات المُعدّلة، برنامج تسوية الضرائب في فرنسا الذي بدأ في عام 2013، استعاد ما يُقدّر بـ 6.3 مليار يورو من نحو 19 ألفا من دافعي الضرائب. خوف الناس من انكشاف أمرهم يُقنع ملايين منهم بالاعتراف، لكن ليس الجميع على استعداد للقيام بذلك. فيليب ماركوفيسي، محامي الضرائب الذي قدّم المشورة لليختنشتاين فيما يتعلق بقرارها في وقت سابق لرفع تدابير السرية في مصارفها، يقول "إن البعض يردعه الخوف من أن المعلومات ستقع في أيدي المسؤولين الفاسدين والقراصنة ما سيؤدي إلى عمليات خطف وفدية وسرقة للهويات". التداعيات من أوراق بنما، الوثائق المُسرّبة التي كشفت الجوانب غير المشروعة للتمويل الخارجي في نيسان (أبريل) المقبل، كثّفت الطلب على قدر أكبر من الشفافية. فرنسا، على سبيل المثال، استجابت من خلال إنشاء سجل عام لصناديق الائتمان، لكن سرعان ما تم تعليقه بعد طعن قانوني من قِبل امرأة أمريكية تبلغ من العمر 89 عاما، عندما حكم القاضي أن مكتب التسجيل كان بإمكانه كشف المستفيدين من تركتها. هوارد شارب، النائب العام السابق في جيرزي، يعتقد أن مزيدا من الطعون القانونية أمر وارد. أحد الأسباب لذلك، كما يقول، هو أن التبادل التلقائي للمعلومات ينطوي على "اختيار كميات كبيرة من البيانات وتقديمها ببساطة إلى مجموعة من الهيئات العامة بدون أي تصفية حقيقية". في غضون ذلك، يبحث الناس عن طُرق أخرى للالتفاف حول القوانين. آرثر فان ديزاند، الوكيل الخاص الكبير المتقاعد لمصلحة ضريبة الدخل في الولايات المتحدة، يقول إن المستثمرين يقومون بشراء وتخزين الأصول المُكلفة، مثل الألماس والفن، بدلاً من الاحتفاظ بالنقود، ويرجع ذلك جزئياً إلى انخفاض أسعار الفائدة لكن أيضاً إلى الحملة على التهرّب الضريبي. ويقول "كثير من الناس على استعداد للمخاطرة بشراء ثلاثة ملايين دولار، أربعة ملايين دولار أو خمسة ملايين دولار من قطع الألماس والاحتفاظ بها في صندوق ودائع آمن". ويُضيف أن "الأغراض التي تُعتبر كبيرة على نحو لا يمكن معه تخزينها في صناديق ودائع آمنة يُمكن أن تُخبأ في خزائن آمنة كبيرة يتم إنشاؤها في كثير من المدن الكبيرة". الالتفاف على القواعد الأفراد الذين لديهم استثمارات تقليدية أكثر غالباً ما يُمكنهم أيضاً الالتفاف حول القواعد. بيتر كوتورسينو، محامي الضرائب الدولي، يصف نفسه بأنه "خبير في تجنّب تبادل المعلومات". ويُشبّه وظيفته بأنها "لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد"، لأنه ينصح بهياكل تتجنب طبقات مختلفة من قواعد الإبلاغ التي تم وضعها من قِبل قانون الامتثال الضريبي للحسابات الخارجية، ونظام معيار الإبلاغ المشترك، ومكاتب التسجيل التي تُظهر المالكين النهائيين للشركات وصناديق العهدة. يقول إن نطاق التهرب من القواعد يعتمد على ما إذا كان العميل مواطنا أمريكيا، وإذا أمسك به قانون الامتثال الضريبي للحسابات الخارجية أم لا. "تجنّب هذا القانون يكاد يكون من المستحيل، لكن تجنّب نظام معيار الإبلاغ المشترك ليس صعبا إلى هذه الدرجة". السبب بسيط: من المحتمل أن تكون هناك ثغرات كبيرة في شبكات نظام معيار الإبلاغ المشترك، على الأقل في البداية. في حين إن جميع البلدان يجب عليها تلبية معايير معينة بشأن حماية البيانات، إلا أن بعضها يختار فرض عقبات إضافية من شأنها الحد من عدد البلدان التي يُمكن أن تحصل على البيانات. سويسرا، على سبيل المثال، تختار تبادل الشركاء وفقاً لما إذا كانوا يوفّرون لدافعي الضرائب "نطاقا كافيا لإعادة تصويب أوضاعهم" - تساهل للكشف عن حسابات غير مُعلنة - وعلى استعداد لمناقشة إمكانية وصول السوق إلى صناعة الخدمات المالية. هذه الثغرات لها آثار كبيرة في البلدان الناشئة - خاصة في إفريقيا، حيث جابرييل زوكمان، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيركلي، يُقدّر أن ما يصل إلى 30 في المائة من الثروة المالية محفوظة في مناطق الأفشور. أندريه نوبل، المستشار القائم في بوينس آيرس لمجموعة الناشطين "شبكة العدالة الضريبية"، يقول إن البلدان النامية بحاجة إلى الشفافية أكثر من أي بلد آخر. "البديل، لضمان السرية، هو بالضبط ما تُريده الملاذات الضريبية، فهم يعرفون أن عليهم الرضوخ إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكنهم يُريدون حماية السرية للنخبة في البلدان النامية". في بعض المناطق المُتضررة من نظام معيار الإبلاغ المشترك، مثل أوروبا، هناك حيل للالتفاف حول قواعد التبليغ الجديدة. بعض الأفراد يتطلّعون إلى الاستفادة من التدابير المختلفة التي تنطبق على تبادل المعلومات في الولايات المتحدة. صناديق العهدة المعروضة في بعض الولايات الأمريكية مثل ساوث داكوتا هي مسار شائع للتهرّب من قواعد السرية الجديدة. ببساطة من خلال تعيين وصي محلي و"حام" أجنبي - شخص لتوجيه الأمناء - بإمكان صناديق العهدة تجنّب التدقيق بموجب القواعد الأمريكية والدولية. التكهنات التي كانت سائدة قبل الانتخابات التي تفيد بأن هذه التكتيكات ستأتي بنتائج عكسية في حال كانت هناك إدارة ديمقراطية في واشنطن، ووافقت على الانضمام إلى نظام معيار الإبلاغ المشترك، هذه التكهنات تبخّرت مع انتخاب دونالد ترمب. في الواقع، يعتقد بعض المختصين أن إدارة ترمب يمكن أن تُلغي قانون فاتكا، الذي لقي إدخاله معارضة قوية من الحزب الجمهوري. ثغرة «واسعة» يقول ماركوفيسي "إن الولايات المتحدة تُقدّم ثغرة واسعة في القواعد الضريبية الدولية". ففي حين إن قانون فاتكا يزوّد الولايات المتحدة بمعلومات وافية عن الحسابات الخارجية لمواطنيها، إلا أن المعلومات التي توفّرها الولايات المتحدة للبلدان الأخرى محدودة أكثر. إن المجال للمناورة يضيق بالنسبة إلى العازمين على التهرّب من الضرائب، حيث يقول "من الواضح تماما أن العالم يتّجه نحو الشفافية بحيث إنه في هذه اللحظات الأخيرة من السرية يكون الاعتماد على الثغرات أمرا خطيرا للغاية". يُضيف أن "المخاطر في انتظارنا في الوقت الذي تحصل فيه الحكومات على مزيد من المعلومات عن ثروة مواطنيها. هل ستغريها (السلطات) تلك للحصول على مزيد؟ الجواب هو نعم. نحن في عالم من السياسيين الشعبويين، وكلما عرفوا أكثر أصبح الأمر أكثر خطورة". قدرة الحكومات على زيادة الضرائب على الأغنياء تعتمد إلى حد كبير على مدى سهولة نقل أولئك الأفراد أموالهم لتجنّب ذلك. ورقة بحث أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية القائمة في باريس حول الطريقة التي تُصمم بها الحكومات أنظمتها الضريبية استخلصت أن التبادل التلقائي للمعلومات "يُمكن أن يكون من المتوقع أن يحدّ من حركة رأس المال"، وبالتالي جعل فرض الضرائب على الثروة ودخل رأس المال أسهل على الحكومات. مع ذلك، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي صممت نظام معيار الإبلاغ المشترك، اعترفت بأن ذلك بالنسبة إلى بعض البلدان الناقلة سيبقى خياراً. النقل لم يعُد يتم بصورة مباشرة. عدد متزايد من البلدان بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وهولندا واليابان تفرض ضرائب مغادرة عندما يُغادر الناس. علاوة على ذلك، يجد الناس في بعض الأحيان من الصعب إقناع السلطات حيث عاشوا فيما مضى بأنهم انتقلوا فعلاً. كريستيان كالين، رئيس مجلس إدارة هينلي، شركة تخطيط الإقامة، يعتقد أن التبادل التلقائي للبيانات الضريبية سيزيد عدد الناس الذين ينتقلون لأغراض ضريبية. "المستقبل لن يكون فقط أكثر شفافية لكنه سيكون أيضاً أكثر تنقلاً". بعض البلدان التي تُقدّم معدلات ضريبية منخفضة لجذب السكان الأثرياء لا تُصر على أن يعيشوا هناك. في الواقع، يتم الإعلان بهدوء عن عدم وجود أي متطلبات وجود فعلية باعتباره حيلة للتحايل على الإبلاغ بموجب نظام معيار الإبلاغ المشترك. باسكال سان أمان، كبير مسؤولي الضرائب في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يقول "إن مخططات الإقامة من خلال الاستثمار التي توفّرها حكومات مثل مالطا وقبرص والبعض في منطقة البحر الكاريبي، لن تؤدي إلى تقويض حملة الشفافية.. نحن نعمل على هذا، ولن تنجو لفترة طويلة". تزوير النقل لن ينجح يقول ماركوفيسي "إن كثيرا من الناس يعتقدون أنه يكفي أن تحصل على الحق بالعيش في جزر البهاما، لكنه ليس كافياً، حيث عليك أن تعيش هناك فعلاً. عليك أن تختار مكانا حيث تريد أن تكون فيه فعلاً". ويُضيف أن "المستثمرين الذين يشعرون بالقلق إزاء كشف شؤونهم الضريبية يواجهون قرارا صارخا. أكثر من أي وقت مضى (من قبل) ليس لديك سوى خيارين: الالتزام بقواعد بلادك أو الخروج من بلادك".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES