ثقافة وفنون

«آغوتا كريستوف» .. لاجئة اختارت «الفرنسية» منفى لإبداعها

«آغوتا كريستوف» .. لاجئة اختارت «الفرنسية» منفى لإبداعها

«آغوتا كريستوف» .. لاجئة اختارت «الفرنسية» منفى لإبداعها

«آغوتا كريستوف» .. لاجئة اختارت «الفرنسية» منفى لإبداعها

آغوتا كريستوف: الألم وحده هو الذي يولّد الإبداع.

حين يختلط الألم بالمعاناة، ويمتزج القهر بالعداء، وينصهر التمرد في البلاغة، وحين يجتمع في شخصية ما كافا مع ألبير كامو وإرنست هيمنجواي، فقطعا نكون قد ضربنا موعدا مع التميز والتفرد في الحياة الشخصية كما في الكتابة والأدب؛ إنه موعد مع التعبير عن الإنسان مطلق الإنسان على لسان آغوتا كريستوف. "لا يوجد ما هو مرعب أكثر من أن تجد نفسك غريب اللسان والفكر والهوى في بلد آخر، فاقدا وطنك وأهلك ولغتك وأدبك. تعود طفلا وأنت في الكبر لتتعلم كيف تتحدث وتخاطب الآخرين"، إحدى العبارات القوية التي تثبت ما سبق. نضيف إليها قولها في آخر حوار لها قبل الرحيل في صمت قبل خمس سنوات "أي كتاب ومهما كان حزينا لا يمكن له أن يكون أكثر حزنا من الحياة". #2# طالما تردد مقولة "إن الألم وحده هو الذي يولّد الإبداع" على أسماعنا، دون أن يقف الواحد منها على نماذج واقعية تثبتها. يصح أن نقول إن الأمر مختلف مع أعمال الروائية المجريَّة آغوتا كريستوف "1935-2011" التي عانت ويلات الحرب والتشتت في صباها وشبابها، بدءا بطفولتها البئيسة بعد الرحيل من قريتهم في سن التاسعة؛ حينما كان بلدها المجر خاضعا للاحتلال الألماني، قبل أن يتعرض للغزو الروسي الذي فرض لغته في المدارس، ومنع تدريس باقي اللغات. ثم الانتقال مجددا كشابة؛ وأم لم تتجاوز الحادية والعشرين، لاجئة إلى سويسرا هربا من جحيم الشيوعية المقيت. #3# ظهرت موهبة الكتابة مبكرا لدى طفلة أصيبت بمرض القراءة الذي لا شفاء منه؛ بفضل أمها التي تختار استبعادها من البيت كعقاب، فترسلها إلى الصف الوحيد في مدرسة والدها؛ حيت يتكرر الموعد مع الكتب المصورة في أقصى حجرة الدرس، قبل أن يتحول إلى عدوى قراءة أي مطبوع يقع أمام عيني الطفلة من جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات ورق، وصفات مطبخ، كتب أطفال.. عدوى لم تلق الإشادة والإعجاب إلا من قبل الجد، الذي يطوف ببنت السنين الأربع بيوت الجيران، لتقرأ عليهم الجرائد بطلاقة، دون خطأ، وعن هذا الشعور علقت تقول "باستثناء فخر جدي بي، لم تحمل لي القراءة إلا اللوم والاحتقار من قبيل، إنها لا تفعل شيئا. تقرأ طيلة الوقت". عانت "الأمية" كما اختارت أن تعنوِن سيرتها الذاتية؛ حتى إن كان أبطال الثلاثية "الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة" - التي ترجمت إلى 40 لغة - يقدمون في المتن الروائي جانبا من حياة آغوتا الواقعية المريرة، من عداوتها المطلقة للغات، بما في ذلك اللغة الفرنسية التي أبدعت روائعها في كنفها. كانت اللغة المجرية لغتها في المدرسة الداخلية، التي دفعها الصمت الإجباري المفروض كي تحرر بها ما يشبه دفتر مذكرات في زمن الصبى. عن تلك المغامرة الطفولية تقول "اخترعت كتابة سرية حتى لا يتمكن أحد من قراءة مذكراتي". لكن والحق يقال إن آغوتا ولِدت ككاتبة من عدائها للغات الثلاث: اللغة الألمانية جراء الاحتلال، ثم اللغة الروسية بسبب الاحتلال الروسي- السوفياتي للمجر، ثم أخيرا اللغة الفرنسية في سويسرا بفعل اللجوء، إذ فرضت عليها هذه الأخيرة سنوات من الصمت والعزلة قبل أن تتعلمها. حتى إن كانت لغة إبداعها وشهرتها، فآغوتا لا تتردد في إعلان أن اللغة الفرنسية منفى لغوي بالنسبة إليها، وعن ذلك تقول «هذه اللغة تقتل لغتي الأم". مذكرة قرائها بالنضال المحتد والطويل الذي استمرت فيه طيلة حياتها لقهر هذه اللغة المركبة. وتضيف "على الرغم أني تكلمت بها أكثر من 30 سنة، وكتبت بها أكثر من 20 سنة، فإني لا أعرفها حق المعرفة، ولم أستطع التحدث بها من دون أخطاء، كما لم أستطع الكتابة بها دون الاستعانة بالمعاجم التي أرجع إليها دائما. مكرهة أنا، علي الكتابة بالفرنسية، إنه تحد تخوضه امرأة أمية". العلاقة المتوترة بين عاملة مصنع الساعات في سويسرا واللغة الفرنسية أرخت بظلالها على المتن الروائي لآغوتا، إذ على الرغم من تتناولها موضوعات الإنسان كفرد وحالة وجوده وآماله وأحلامه وطبيعته النفسية، ظلت اللغة عندها مباشرة وواضحة لا تحتمل التأويل، وفي نفس الوقت مختصرة مائلة إلى التقصير بلا وصف ولا تفصيل، في صيغة أقرب ما تكون إلى اللغة الإخبارية. معطى اللغة هذا أثر بشكل كبير في عنصري الزمان والمكان لدى الروائية، غير أنها تفاجئنا بردّها عن هذا السؤال فتقول "ما قيمة الزمان والمكان في آلام النفس؟ ماذا سيضيفان إلى العمل؟ وماذا سينقصان منه"؟ لذلك لم تخبرنا أبدا الكاتبة عن وقت، كما لم يعنِها المكان، فقد تخلت عنهما في مسارها السردي. على غرار مشاهير الرياضة والفن قررت آغوتا كريستوف الاعتزال بإعلانها التوقف عن الكتابة، التي كانت وسيلتها من أجل التخفيف من كدر الحياة ومتاعبها، معلنة الانزياح لتيار التشاؤمية الحديث بقيادة الروماني إميل سيوران، بقولها "أجل كل الأشياء سواء، حتى الكتابة.. لقد منحتني الكتابة الكثير.. ولكن الآن لم تمنحني شيئا". لقد استعانت آغوتا بالكتابة من أجل التفريغ والمكاشفة، ونقل مآسي النفس البشرية في صراعها من أجل البقاء إلى الآخرين. حالما تنتهي من أحد أعمالها، تراودك في الغالب، هواجس عن أبطال آغوتا كريستوف في واقعنا اليوم. نعم، كم من اللاجئين اليوم يعيشون حياة أشبه بتلك التي ترويها كريستوف إن لم تكن أفظع منها، وكم من القصص سيحكيها لنا هؤلاء إن سمحت لهم الظروف مستقبلا أشبه ما تكون بما نقرأه عند آغوتا؟ وكأن التاريخ اختار أن يلقن البشرية دروسه فرادى لا جماعات أو بالنيابة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون