ثقافة وفنون

أدب الحرب .. فن الدفاع عن الحياة

أدب الحرب .. فن الدفاع عن الحياة

هذا النمط الأدبي، تعبير عن هول تجربة تجبر فيها الظروف الفرد على التضحية بنفسه.

لا قوة استطاعت أن تواجه جبروت الزوال غير سلطة الإبداع، فالفن بتعبيراته المختلفة إحدى الأدوات التي قهر بها الإنسان عبر التاريخ سلطة الفناء، وخلّد بالكتابة والرسم والنحت... وغيرها من الفنون روائع وثّق بها أحداثا كبرى، ولحظات مميزة من تاريخ البشرية المجيد. بلغت درجة الإنسان في سعيه ذاك مبلغا مكنه من تسجيل وقائع لأقسى تجربة خاضها على وجه الأرض؛ إنها الحرب، حتى درج الحديث في الأوساط الإبداعية على استعمال توصيف "أدب الحرب" على هذا الصنف من الأعمال التي تعكس في عمقها وجها من أوجه الأدب الإنساني. فهذا النمط الأدبي، في نهاية المطاف، تعبير عن هول تجربة تجبر فيها الظروف الفرد على التضحية بنفسه من أجل قضية يعتبرها أهم من وجوده ككيان. فالواضح أن النفس البشرية جبلت على حب الحياة، بينما تفرض هذه التجربة ذاتها على الأفراد؛ بأمر من المجتمع وبناء على رغبتهم، ما يجعلهم مستعدين للموت في سبيلها. أكيد أن التجربة الحربية ليست ذاتية بالكامل، وتحمل بين ثناياها من التناقضات الشيء الكثير، فالمقاتل يسعى لإثبات الوجود وتحقيق الأهداف السامية، بينما الواقع المعاش فظ وقاس. بصيغة أخرى نقول، أنها تمثل اختبارا للإنسان من أجل إثبات مدى استطاعه التضحية بحياته التي تعد أغلى ما يملكه، مقابل تحقيق الانتصار لقيم وأفكار ومعتقدات يؤمن بها. ينقلنا هذا الصنف الأدبي من عوالم سردية بأحداث وأبطال وفضاءات من نسج خيال المبدع الروائي إلى عالم أقرب ما يكون مطابقا للواقع والحقيقية، فالأعمال الروائية المصنفة في خانة الأدب الحربي تبقى في معظمها نتاج تجربة قاسية بذكريات وخدوش مؤلمة للراوي، البطل، الكاتب. قيل الشيء الكثير عن "أدب الحرب"، وتباينت الرؤى والمواقف حياله بدءا من الاسم في حد ذاته؛ بدعوى ما تتضمنه العبارة عينها من تناقض لغوي وفكري. مرورا بالتعريفات التي قدمت في معرض تحديده؛ ما بين تلك التي تتخذ ثوبا فضفاضا أكثر من اللازم، وتلك التي تضيق على نفسها حد الانحصار. وصولا إلى الاختلاف حول الشروط اللازم استجماعها في عمل أدبي رواية كان أو قصة، بغية إدراجه في لائحة الأدب الحربي. بعيدا عن دوامة هذا السجال التي يخوض فيها النقاد؛ ذي الدوائر الممتدة، بلا استشراف لقرب نهايتها، خصوصا مع اختلاف المواقع التي يكون فيها الكاتب. إذ نجد ثلة من الأدباء شاركوا فعليا في المعارك وخملوا السلاح في ساحات الحرب، بينما بعضهم استغل فرصة معاصرة الأحداث، ليكتب لنا من موقع الشاهد الذي يوثق مجريات الحرب وانعكاسها على الحياة، دون أن يكون مشاركا فعليا فيها. نعرض في هذا السياق لأسماء بارزة بصمت بأعمال مائزة في قائمة "الرواية الحربية" الرواية، ممن قرروا أن يشاطروا القراء تجربة الإنسانية الفريدة من نوعها، مستثمرين في ذلك المشاركة في جبهات القتال وميادين الوغى في إبداعات. في مقدمة رواد الرواية الحربية نجد الروائي الروسي؛ الذي شارك في أحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحاصل على جائزة نوبل سنة 1965، ميخائيل شولوخوف (Mikhaïl Cholokhov) بعمله "الدون الهادئ" – في أربعة أجزاء- الذي يسرد التطورات المتلاحقة لبلده بعد سقوط الحكم القيصري والحرب الأهلية. وضمن المعسكر الغربي نختار الروائي الأمريكي إرنست همنغواي (Ernest Hemingway) صاحب جائزة نوبل لعام 1954 عن رائعة "العجوز والبحر"، الذي قادته الظروف لخوض غمار الحربين العالميتين كذلك؛ إلى جانب اشتغاله كمراسل في الحرب الأهلية الاسبانية. تجربة حربية مكنت الرجل من العودة بقرائه إلى تلك أجواء ومآسي الحرب. وقد ظهر ذلك بشكل جلي في راوية "لمن تقرع الأجراس"، وقبلها بعشر سنوات رواية "وداعا للسلاح" (1929). تحكي هذه الأخيرة قصة ملازم أمريكي يتعرف على ممرضة في الأجواء العام للحرب المشتعلة على الجبهات، وما يرافق ذلك من أوضاع مزرية تقربنا أكثر من عوالم الحروب. يقول البعض بأن بطلة الرواية ليست سوى تلك الممرضة التي اعتنت بإرنست في مستشفى ميلان الإيطالي عندما أصيب في الحرب، والتي طلبها لزواج غير أنها رفضت، وكانت السبب وراء انتحاره. يضاف للقائمة أيضا الروائي البريطاني جورج أورويل (George Orwell)، هذا الاشتراكي الديمقراطي الثوري الذي تطوع لتعزيز صفوف اليسار ضد القوميين -بقيادة الديكتاتور الجنرال فرانكو- في الحرب الأهلية الإسبانية. تجربة تقاسمها جورج مع القراء في روايته الذائعة الصيت "الحنين إلى كتالونيا" (1938) التي يؤرخ من خلالها إلى فظاعة وقائع تلك الحرب على البشر والحجر. اختصار يمكن أن نذكر في ذات الصنف رائعة "الحرب والسلام" للروائي الروسي ليو تولستوي (Léon Tolstoï)، ورواية "لحن ماثوركا على ميِّتين" للإسباني كاميلو خوسيه ثيلا (Camilo José Cela)؛ الحائز بدوره على جائزة نوبل عام 1989. ينقلنا سلافيدين أفيدتش (Selvedin Avidić) في روايته "مخاوفي السبعة" إلى وقائع تجربة حربية حديثة، يتعلق الأمر بأحداث حرب البوسنة المريرة التي دارت ما بين 1992 و 1995. عودا إلى الحرب العالمية الثانية لنشير إلى رائعة "الثلج الحار" للروائي الروسي يوري بونداريف (Yuri Bondarev) الذي نعيش معه أحداث معركة ستالينجراد من موقعه، واستنادا إلى خبرته الشخصية كضابط مدفعية في الجيش الروسي. أعمال إلى جانب أخرى عديدة تؤكد لقارئها بأن أدب الحرب يبقى أدبا إنسانيا بامتياز، لأن مقصده النهائي يبقى الرفع من قيمة وشأن الفرد بتزكية القيم العليا في النفوس (السلم، المحبة،...). وفي جملة نقول: إنه أدب الدفاع عن الحياة، إذ المتأمل في أروع هذه الأعمال يجدها تدافع عن الحياة. وكأن أصحابها يحذرون الأخرين منها متذكرين قول حكيم العرب زهير بن أبي سلمى في حديثه عن حر الحروب ونيرانها: "وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم/ وما هو عنها بالحديث المرجم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون