ثقافة وفنون

الصحافة .. «أدب» يوثق على عجل وينضج على مهل

الصحافة .. «أدب» يوثق على عجل وينضج على مهل

أليكسييفيتش: لا نريد القتال مرة أخرى، هل يمكننا محاربة الأفكار وقتلها بدلاً من أصحابها؟

"الصحافة.. أدب على عجل" عبارة أبدعها كاتب وشاعر القرن التاسع عشر الإنجليزي ماثيو أرنولد. وتلقى إلى اليوم رواجا كبيرا. أما من تمثلتها في واقعنا المعاصر وتحققها، بكثير من الأناة والتوثيق لا الاستعجال. فاسم مغمور لا يكاد يعرفه أحد في ساحة الأدب، كضمور وطنها روسيا البيضاء في الساحة السياسة الدولية، ويزيد من وطأة الأمر حصار لغة الكتابة – الروسية -، والتعتيم الإعلامي بسبب المواقف المعارضة للنظام الروسي، هو ذا حال الصحافية سفيتلانا أليكسييفيتش Svetlana Aleksievitch المتوجة بجائزة نوبل للآداب السنة الماضية. لا تحمل هذه المحققة الصحافية في سجلها كثيرا من المؤلفات، فباكورة أعمالها كانت عام 1985 بعنوان "وجه غير أنثوي للحرب"، ثم "أصوات من تشرنوبل: تأريخ للمستقبل" و"صبية من الزنك: أصوات سوفياتية من حرب منسية"، "مسحور بالموت"، "الشاهد الأخير"، "وقت مستعمل: زوال الإنسان الأحمر". علاوة على ما يزيد على 20 سيناريو لفيلم وثائقي. وترجمت أعمالها إلى عديد من لغات العالم، نظرا لاحتوائها على شهادات حية من كل المواقع التي عملت فيها كصحافية تحقيقات. صفة أثارت كثيرا من النقد حول استحقاق سفيتلانا الجائزة، فهي في نظر البعض لا تكتب هذه البلاروسية رواية بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما تكتب نثرا توثيقيا. هذا ويرون هذا التتويج كانت بنكهة سياسية، فهو رسالة إلى الرجل الأحمر أولا، وإلى الحركات اليساريّة المُستعادة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على جميع المستويات الأكاديميّة والفكريّة والأدبيّة. عدا تلك التحوّلات السياسيّة الكبيرة التي بدأت تُعيد تقسيم المجتمع إلى جماعتين متمايزتين ومتنافرتين بحدّة: اليمين المتطرّف واليسار الذي يحاول الانزياح نحو الراديكالية مرة أخرى. بعيدا عن النقد، نعود إلى كاتبة تاريخ المشاعر الإنسانية التي يأخذ منها المؤلف الواحد قرابة الخمس سنوات، حيث تجري من أجله ما بين 500 و 700 محادثة بغية التوثيق؛ فالوثيقة من وجهة نظرها لا تكذب على عكس الفن الكاذب بطبيعته. إننا إذن أمام محاولة لابتكار «جنس أدبي جديد» يجمع الفن والوثيقة ضمن قالب مختلف. حتى وإن كنا لا نعلم ما إذا كانت الإشكاليّة هنا في تعريف الفنّ بذاته، أم في فهم ألكسييفتش له؛ فهي تعتبر أنّ «تعدّد المظاهر» داخل الإنسان الحديث أكبر من إمكانيّة الفن على التعبير. نعدم الإجابة في هذا المقام، لذا نعمَد إلى وأد هذا الإشكال بمعية أسئلة أخرى من قبيلما علاقة السياسة بالأدب؟ فنحن نعرف الشيء الكثير عن اهتمامات هذه الكاتبة، وعن رأيها في العديد من القضايا السياسية. وكذا سؤال ماذا يمكن أن تقدمه الصحافة للأدب؟ وما الذي يمكن أن يقدمه الأدب للصحافة؟ حتى وإن كانت سفيتلانا ترفض إضمار هذا الأمر؛ محرجة الآخرين بصراحتها المعهودة ونفسها الإنساني الصادق، بالتساؤل في حفل تتويجها: «يقولون إن ما أكتبه ليس أدبا فما هو الأدب؟!». قبل أن تضيف: «دائما ما كنت أبحث عن وسيلة أدبية تسمح لي أن أكون أقرب للحياة الحقيقية، حيث يجذبني الواقع دائما مثل المغناطيس، فأردت الاستيلاء عليه على الورق». ترد الوريثة الشرعية للروائي البلاروسي إلياس أدموفيتش أستاذها ومعلمها الذي ساهمت أعماله في تطوير أسلوبها، على من يرون أن أعمالها غير خيالية أو بالأحرى واقعية بقولها: "عندما أسير في الشارع وأمسك بالكلمات، العبارات، صيحات التعجب، أفكر دوما – كم من الروايات تختفي دون أثر؟!" وتضيف في تعليقها دائما على مسألة الخيال «... ولكنني لا أدوّن تاريخا حاملا للأحداث والحقائق فحسب، وإنما أكتب تاريخ المشاعر الإنسانية؛ ما فكر فيه الناس وما أدركوه وما تذكّروه خلال الحدث، وما آمنوا به أو ارتابوا فيه، أيّة أوهام، وآمال، ومخاوف كابدوها. وإنّ هاته المسألة عصية على التخيّل والابتكار ضمن أيّ سياق في تعدّد التفاصيل الحقيقيّة. وإننا لننسى على وجه السرعة ما كنّا عليه قبل عشر سنين أو قبل عشرين أو خمسين سنة. وفي بعض الأحيان نكون خجلين من ماضينا، فنرفض تصديق الذي حدث لنا في الواقع الفعلي. قد يكذب الفن، ولكنّ التوثيق لا يفعل ذلك البتّة. كما أنّ التوثيق هو أيضا نتاج مشيئة شخص ما وشغفه على حدّ سواء. أُألّف كتبي من آلاف أصوات وأقدار وشذرات من حياتنا وكينونتنا؟». وتزيد في تعميق الهوة بينها وبين منتقديها، ممن يرون أن سيرتها الأدبية لا تسمح إطلاقا بمنحها جائزة بهذا الحجم، - في تعليقها على خبر تتويجها، وفق ما جاء على لسان رئيسة الأكاديمية السويدية سارة دانيوس أنها لم تزد على كلمة واحدة "رائع"-، بقولها: «أنا مهتمة ببسطاء الناس. البسطاء العظماء، تلك طريقتي، فبالمعاناة يتمدد البشر. في كتبي، يحكي هؤلاء البشر تواريخهم الصغيرة، فيتشكل التاريخ الكبير في الطريق. لم تتح لنا الفرصة لفهم ما جرى ويجري لنا، نحتاج فقط إلى أن نحكيه. ولنبدأ، علينا على أقل تقدير أن نوضح ما جرى. نخاف هذا، لا يمكننا الانسجام مع الماضي». تيمة الحرب حاضرة بقوة في أعمال هذه المحققة الروائية، التي عاشت طفولتها في مأساة الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها والدها، وشبابها في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الشرقي، وما تلاها من حروب نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة (غزو أفغانسان، أوكرانيا...). على هذا الأساس ترى أننا أناس الحرب؛ كنا دائما في الحرب أو نستعد لها. إذا ما نظر أحد بعناية، يجد أننا جميعا نفكر بمصطلحات الحرب، في البيت، كما في الشارع. هكذا تبدو الحياة الإنسانية رخيصة جدًا في هذا البلد. الحرب في كل شيء. لذا لا غرابة إذن أن تختتم أحد كتبها بعبارة على لسان أحد الأشخاص "لا نريد القتال مرة أخرى، هل يمكننا محاربة الأفكار وقتلها بدلاً من أصحابها؟! فالقتل يجعل العالم مخيفاً، ويترك الناس للعزلة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون