العالم

مواطنة الحد الأدنى .. مسمار أخير في نعش الدولة

مواطنة الحد الأدنى .. مسمار أخير في نعش الدولة

يصبح الانتصار للعشيرة الطائفية في سلم الأولويات حتى لو كان ذلك على حساب الوفاء للوطن.

تتقدم البشرية في مدارج التحضر والارتقاء والتمدن ظاهريا، وتهوي باطنيا في مدارك التشتت والتشرذم والتفرقة. فبقدر ما تتقاسم العالم اليوم دول واتحادات ذات سيادة مستقلة، بقدر ما تخترقه انتماءات عابرة للحدود والقارات. فقد أتت الثورة التكنولوجيا على تلك البقية الباقية من الحواجز الحمائية التي تركتها هيئة الأمم المتحدة للدول منذ انهيار الاتحاد السوفياتي؛ بداية تسعينات القرن الماضي، حين تحولت إلى يد طولى تختبئ وراءها الولايات المتحدة من أجل بسط سيطرتها على العالم، وفرض النظام العالمي الجديد أحادي القطبية. وهكذا بتنا نعيش في عصر التكنولوجيا عالما تسود فيه مفارقة عجيبة، دولة وطنية بكامل أركانها التقليدية (الإقليم، الشعب، السيادة) في مقابل استفحال مواطنة الحد الأدنى، أو بتعبير آخر أفراد متعددو الانتماءات، ولنقل بصيغة أدق مواطنون بفائض من الهويات الجزئية؛ "هويات" جديدة خارج الأطر التقليدية المعروفة. انتماء كوكبي كثيرا ما تحدث باحثون مختصون في وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة عن قارة زرقاء أو عالم افتراضي بكامل مقوماته، اعتبارا لعدد المستخدمين أو الأعضاء ممن لهم حسابات شخصية هناك، وبالتالي بطاقة انتماء وعضوية في هذه النوادي الافتراضية. واقعيا ما أكثر الانتماءات التي تغزو الأركان الأربعة للعالم غير مبالية بالحدود السياسية برية كانت أو بحرية، معلنة عن بطاقات هوية جديدة لأصحابها بأبسط الشروط، بعيدا عن التعقيدات الرسمية للمواطنة التقليدية في إطار الدولة الوطنية. فالتجمعات العالمية للأفراد، والانخراط في منظومات على أساس قناعات فكرية أو قيم أخلاقية أو رؤى فلسفية... أو غير ذلك في تزايد مستمر يوما بعد الذي يليه، وهكذا صرنا نسمع عن ائتلافات واتحادات ومنظمات يعد أعضاؤها بالملايين، وأحيانا بعشرات الملايين موزعين في كل الأقطار، ممن يعتنقون أفكارا أو يدافعون عن قيم أو ينتصرون لقضية أو قضايا بعينها. أليست فلسفة أنصار البيئة التي بدأ أصحابها كصوت نشاز في الهوامش، تيارا يحسب له اليوم ألف حساب، بل فرض نفسه في بعض البلدان فتحول نشطاؤه إلى قادة لأحزاب سياسية تعرف بأحزاب الخضر، يزداد حضورهم في عديد من البرلمانات. ثم ماذا عن الحركة العالمية لمناهضة العولمة التي بدأت في سياتل Seattle في شمال غرب الولايات المتحدة سنة 1999، ضد مؤتمر مجموعة الدول الصناعية الثماني. إذ ما فتئت تتحول إلى تجمع عالمي ضخم يأتي أعضاؤه ومناصروه من كل فج عميق، للتظاهر ضد ساسة العالم عند كل ملتقى أو مؤتمر دولي لممثلي قوى الدول الكبرى. وقس على ذلك عند الحديث عن الحركات النسائية العالمية Féminisme، أو قضايا حقوق الحيوان؛ التي طرحت إلى واجهة التفكير لأول مرة حديثا من قبل الإنجليزي هنري سالت Henry Salt والأمريكيين آلان ديرشويتز Alan Dershowitz ولورنس ترايب Laurencz Tribe، أو حركة النباتيين Végétarisme التي ترتفع أعداد المنتمين إليها تدريجيا، حيث بلغ وفق تقديرات 40 في المائة في الهند، ونحو 3 في المائة في العالم الغربي. ولاء طائفي يظهر مما سبق أنه بينما هناك قسما كبيرا من البشرية يأخذ طريقه نحو الانصهار في الإنسية العالمية بأفقها الإنساني الرحب، تفضل بعض الزمر الوفاء لولاءات طائفية أو الانخراط في مشاريع مذهبية أو أيديولوجية قوامها نشر الرعب والتخريب والعنف داخل الدول، وبين الأفراد في المجتمعات. انتماء وولاء غالبا ما يكونان على حساب الوطن وروح المواطنة التي رضع هؤلاء حليبها في الصغر قبل أن يتنكروا له في الكبر. ففي الغالب يُقدم الانتصار للعشيرة الطائفية وخدمة الشلة المذهبية والوفاء الحزبي في سلم الأولويات لدى أهل هذا الفسطاط على الوفاء للوطن. ويمتد هذا الاستلاب الطائفي ليشمل التنكر للإخوة في الوطن، وفي بعض الأحايين يشتد عماه ليبلغ أوجه بتنكر هؤلاء لأقرب المقربين في العائلة من أبناء وإخوة وأبوين. إفلاس بعض التجارب التاريخية لهذه المشاريع (الناصرية، البعثية...) لم يحل دون الإيمان بها والانخراط فيها مجددا، وبشكل جنوني يدعو إلى الاستغراب أحيانا. فأن تحمل جماعة مثل الحوثيين في اليمن السلاح ضد إخوتهم في الوطن وأشقائهم في القبيلة والنسب خدمة لأجندة دولة أجنبية، تحولهم إلى ورقة تفاوضية للدفاع عن مصالحها الخاصة في الأروقة الدولية يثير الشك والربية. وأن يصبح فصيل لبناني «حزب الله» أقام شرعيته التاريخية منذ تأسيسه عام 1985 على خطاب المقاومة والممانعة والتصدي للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، أداة طيعة في يد نظام الملالي في طهران يحركونه وفق رغباتهم وتوجهاتهم في الإقليم العربي (سورية، العراق...) أمر يستحق وقفة تأمل. أما عن «داعش» وأخواتها من «القاعدة» و«بوكو حرام» وحركة المجاهدين... وهلمجرا من التنظيمات ذات العقيدة العنفية والإيديولوجية القتالية، فالحديث ذو شجون كما يقال. فهم يظنون أنهم وحدهم على الطريق الصحيح في أدبياتهم النظرية، والشِّرعة السليمة لدى هذه الفئة وأنصارها فقط دون غيرهم من العالمين، ما يعني أن دماء وأولاد وأموال الغير من خارج جماعتهم مستباحة، حتى وإن كان الأمر يتعلق بأقرب المقربين دينا أو نسبا. تفرض هذه الثنائية التي يتزايد وقعها يوما بعد آخر إعادة النظر في العدة النظرية لمقومات الدولة الوطنية للقرون الماضية، وعلى رأسها المواطنة التي باتت مخترقة على أكثر من صعيد، فهي إما أن تكون سائرة نحو الانصهار في أيديولوجيات عالمية وحركات عابرة للحدود والقارات، أو ترتد عكسيا نحو التقوقع في مشاريع مذهبية أو طائفية شعارها أنا ومن بعدي الطوفان. صحيح أن هذه الانتماءات لم تصل بعد حد الاعتراف الرسمي بها؛ خصوصا ذات البعد الكوكبي، لكنه يسائلنا اليوم كمعطى واقعي يكبر تدريجيا ويفرض ذاته في هوامش النقاش هنا وهناك، ويتحول إلى مركزه من حين لآخر محاصرا مفهوم المواطنة في القرن الـ 21 بجملة من الالتباسات. ما يعني أنه قد يتحول في الغد القريب أو المتوسط إلى حقيقة واقعية لا مفر لنا من مواجهتها.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم