Author

بريطانيا في دائرة الانسحاب والتفكك

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"رسالتي واضحة. الاتحاد الأوروبي ليس كامل الأوصاف، لكن مصلحة اسكتلندا أن تكن جزءا منه" نيكولا ستورجيون - الوزيرة الأولى في اسكتلندا كانت تيريزا ماي حريصة على زيارة اسكتلندا كأول جهة تزورها بعد تسلمها مهام منصبها رئيسة لوزراء البلاد مباشرة. الرسالة أكثر من واضحة. فإذا كانت ماي مرتعبة من خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، فهي مرتعبة أيضا مما يثار على الساحة الاسكتلندية، من أن قرار الانفصال جاء متعارضا تماما مع رغبات غالبية الاسكتلنديين. لكن ماي تصبح مرتاعة عندما ينتقل الحديث من أهمية الاتحاد الأوروبي وضرورة استمرار اسكتلندا في علاقتها مع هذا الاتحاد، إلى تعارض المصالح الاسكتلندية مع بقاء هذا الإقليم ضمن المملكة المتحدة نفسها. أي أن المسألة تتحول شيئا فشيئا من انسحاب المملكة من الاتحاد إلى إمكانية انسحاب اسكتلندا من المملكة. وهذه لوحدها بمنزلة فاجعة بريطانية إذا ما أخذت المسألة مراحل متقدمة. لا يبدو أن الزيارة التاريخية اللافتة لماي إلى اسكتلندا أزالت شيئا من مخاوف رئيسة الوزراء، وحتى اللقاءات التي تمت بعد هذه الزيارة وجمعت مسؤولين من الطرفين، لم تخفف من قلق الحكومة المركزية في لندن، بمن فيها الوزراء الذين قادوا حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فهؤلاء رغبوا ألا يصدقوا ما يسمعوه من أدنبرة، لكن التمنيات لا تصنع الحلول ولا تشكل المواقف، وبالطبع لا تقدم ولا تؤخر. ورغم الهدوء الاسكتلندي الذي عبر عن نضوج سياسي حقيقي بالفعل، حيال مقدمات الخروج البريطاني، إلا أنه لا يستمر طويلا، بل إن المسؤولين الاسكتلنديين لا يستطيعون في الواقع إطالة أمد هذا الهدوء الذي يعرف الجميع أنه يسبق عاصفة، قد لا تتمكن لندن ولا أي جهة في المملكة المتحدة من السيطرة عليها. بعد ثلاثة أشهر من الاستفتاء التاريخي على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، لم تستطع المؤسسة السياسية الاسكتلندية الالتزام تماما بالهدوء المشار إليه. لماذا؟ لأن الشارع في الإقليم البريطاني الشمالي زاد من زخم الحديث عن مستقبل هذا الإقليم بعد الاستفتاء. وكانت الوزيرة الأولى في الحكومة الاسكتلندية نيكولا ستورجيون شجاعة بما يكفي لأن تدعو حزبها الوطني (ذا التوجه القومي)، لإجراء نقاش شعبي وصفته بـ "الأوسع في مسيرة الحزب"، لفهم طبيعة تأثير "الخروج البريطاني"، في توجهات الشارع الإسكتلندي حيال ماذا؟ حيال البقاء تحت التاج الملكي! فالمسألة انتقلت بالفعل من مرحلة دراسة وبحث الأضرار الناجمة عن الانفصال على الإقليم البريطاني، إلى قضية البقاء ضمن إطار المملكة المتحدة من عدمه. وهذه القضية من المفروض أنها انتهت في أعقاب استفتاء تاريخي أيضا تم في اسكتلندا عام 2014، أيد فيه الاسكتلنديون البقاء ضمن المملكة. ورغم أن بريطانيا لا تزال في مرحلة ما قبل المفاوضات للخروج من الاتحاد الأوروبي، وبالتالي ليس معروفا شكل العلاقة المستقبلية بينها وبين هذا الاتحاد، فقد قفز الاسكتلنديون إلى مرحلة ما بعد انتهاء المفاوضات التي لم تبدأ. بمعنى، أنهم لم ينتظروا النتائج التي ربما تخفف أو لا تؤذي المصالح الاسكتلندية – الأوروبية، وهم بلا شك لا يريدون أن يخسروا حجة قوية لفتح ملف بقاء إقليميهم في المملكة. ولا يمكن لأي قومي اسكتلندي أن يخفي حماسته لفتح هذا الملف، وعلى رأسهم ستورجيون التي فشلت في أداء دور مُمسك العصا من المنتصف، ودفعتها قوميتها إلى اتجاه كان معروفا منذ اللحظات التي أعقبت إعلان نتائج انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. مستندة بالطبع إلى أن الأغلبية في بلادها صوتت لمصلحة البقاء في الاتحاد. لا أحد يحسد تيريزا ماي على موقعها في الوقت الراهن. فهي تقود في الواقع حكومة منقسمة على نفسها في واحدة من أهم القضايا المحلية قاطبة منذ الحرب العالمية الثانية، في حين أن بلادها باتت مهددة بالانقسام، ليس فقط من الجهة الإسكتلندية بل أيضا من الجانب الإيرلندي (في الشمال)، الذي يطرح هو الآخر المبررات نفسها لإعادة مراجعة تلك العلاقة التاريخية مع بريطانيا. ورغم أن سلفها ديفيد كاميرون انتصر على جبهة بقاء إسكتلندا تحت التاج البريطاني، وفشل في إبقاء بلاده ضمن الاتحاد الأوروبي، فإن ماي قد تفشل فيما انتصر فيه كاميرون. أي الإبقاء على هذا التاج فوق الرؤوس الأربعة (إنجلترا وويلز وإسكتلندا وإيرلندا الشمالية). وربما دخلت تريزا ماي التاريخ كرئيسة وزراء تفتت بلادها في عهدها، بعد أن انسلخت من محيطها الأوروبي. كل الاحتمالات واردة، طالما أنه لا عودة عن قرار الشعب البريطاني بالانسحاب من الاتحاد، وطالما أن ماي ستلتزم بقوة صوت الشعب لا بجبروت القانون الذي يمنح نواب مجلس العموم الحق بالتصويت على "تصويت" الشعب. إن مفاوضات الخروج البريطاني التي يعطلها البريطانيون بصورة أو بأخرى، ربما لن تكون ذات أهمية تاريخية، مقارنة بانسحاب اسكتلندا من تحت التاج البريطاني، والتغريد مع السرب الأوروبي.
إنشرها