FINANCIAL TIMES

الأسواق مكان توجد فيه دائما فرص للغش والخداع

الأسواق مكان توجد فيه دائما فرص للغش والخداع

غلاف كتاب "الاقتصاد الأخلاقي"

الأدب والتقوى والروح الوطنية والحب: كلنا نفضل هذه الأمور، والله يعلم ذلك. لكن عندما تكون لديك شركة، أو اقتصاد، أو دولة تريد بناءها، تكون الركيزة الأساسية هي المصلحة الذاتية -المصلحة الذاتية وحدها- التي ستبقيها واقفة. أما الجشع فهو عاطفة يمكنك أن تعوّل عليها. إذا كان هناك عقيدة راسخة منفردة سيطرت على الفكر السياسي والاقتصادي الرئيس السائد منذ القرن الـ18، فهي هذه العقيدة. صامويل بولز، الخبير الاقتصادي في معهد سانتا في، يعتقد أن هذه العقيدة الراسخة مزيفة. في كتابه محكم الحجة والإيضاح، "الاقتصاد الأخلاقي: لماذا لا تكون الحوافز الجيدة بديلا لدى المواطن الجيد"، يقدم بولز الحجة بأن المناشدات التي تتم لمصلحتنا الذاتية يمكن أن تنتقص من الدوافع الأخلاقية الفطرية، وعندما تضعف تلك الدوافع تعمل المؤسسات الحاسمة والمهمة بشكل أقل مثالية، هذا إن عملت أصلا. وهذه هي الحال حتى بالنسبة للأسواق، التي تعد المؤسسات التي تتخذ منها العقيدة نماذج لقوة الجشع المنظم الفريدة من نوعها. إليكم مثالا جيدا على ذلك. قبل 15 عاما أنهت إدارة الإطفاء في بوسطن سياستها بعدم وجود حد أعلى لعدد أيام الإجازات المرضية التي يستطيع أن يأخذها الموظف، أملا في الحد من تفشي مرض الإنفلونزا الذي بدا أنه يحدث أيام الإثنين والجمعة من كل أسبوع. ورجال الإطفاء الذين يأخذون إجازة مرضية لأكثر من 15 يوما يتم خصم الأيام الزائدة من أجرهم. في العام التالي ارتفع عدد أيام الإجازات المرضية لدى الموظفين إلى أكثر من الضعف. وارتفعت أيام الإجازات المرضية في وقت العطلات في نهاية العام نحو عشرة أضعاف. يا لها من مشكلة! كيف يمكن لإضافة حافز مالي ظاهر دفع السلوك في الاتجاه الخاطئ؟ إن حالة بوسطن هي بالكاد حالة فردية. إضافة إلى الأدلة القولية، يقدم بولز أمثلة من نظرية الألعاب. في التجارب غالبا ما يتخذ اللاعبون في الألعاب التي على نمط "معضلة السجين" -وحين تتضمن مالا حقيقيا- سلوكا يستفيد منه اللاعبون الآخرون في الوقت الذي تقل فيه مكافآتهم. عندما يضيف المجربون حوافز لنكران الذات، غالبا ما يتراجع السلوك الأناني. إن دراسة واختبار الحالة الخاصة بهؤلاء الرجال تعطينا شعورا بدهيا بما يحدث في تلك الحالات. عمل التغيير في سياسة أيام الإجازة المرضية على استبدال العلاقة التي كانت تقوم على احترام وتقدير مكانة رجال الإطفاء بعلاقة أخرى تفرض ثمنا على طاعتهم. بدلا من معاملة القدوم إلى العمل أثناء العطلات على أنه واجب، أصبح أمرا يستطيعون دفع المال مقابل الخروج منه. وقرر كثيرون أن ذلك أمر يستحق العناء. يطلق بولز على هذا تعبير "التزاحم لإخراج الأفضليات الاجتماعية". ووجود هذه الظاهرة -وبعد قراءة الكتاب، من غير المحتمل أن يشك القراء في حقيقتها أو أهميتها- يقلب الفكرة التي مفادها أن الأسواق هي ببساطة نتاجات التفاعل ما بين دوافع الأنانية. كذلك العلاقة السببية تذهب في الاتجاه الآخر. الأسواق تنتج دوافع أنانية، أيضا، يمكن بدورها أن تحرم الدوافع الأنانية من مكانتها الأساسية في النظام الأيكولوجي النفسي. سينهي المديرون قراءة كتاب بولز وهم يتمنون رؤية مزيد من الأمثلة التي تبين كيف تعمل ظاهرة التزاحم لإخراج الأفضليات على تهديد إنتاجية الشركات. لكن كل من عمل في أي وقت مضى ضمن فريق يعرف أن نجاح الفريق يعتمد على مساندة أعضاء الفريق لبعضهم بعضا، حتى في غياب المكافآت الفردية. وتقديم النوع الخاطئ من الحوافز المادية في هذا السياق -مثل قليل من الأجر الإضافي مقابل الإشراف مثلا- يمكن أن ينتقص من هذا الدعم المشترك من خلال جعله مجرد نوع آخر من العمل (ذي أجر منخفض)، أو مربع آخر لوضع العلامة فيه. يستند بولز إلى تقليد مطول من الشك إزاء قوة المصلحة الذاتية، وهو تقليد يعود إلى أرسطو ومن خلال روسو، يتخذ شكله المعاصر لدى مفكرين من أمثال كينيث آرو وألبرت هيرشمان. الفكرة الرئيسة هي أنه لا يوجد أي تركيب أو عقد سوقي مصمم بشكل جيد يمكنه القضاء على جميع الفرص المتاحة أمام اللاعبين السيئين لاستغلال السذج بطريقة تفتقر إلى الإنصاف. ستكون هناك دائما فرص للغش. لذلك في غياب وجود خلفية تتسم بالثقة وحسن النية، لن يتم تحقيق المنافع المشتركة والفوائد المتبادلة من التجارة والتعاون على الإطلاق. وبشكل عقلاني تماما، كل طرف سيشعر بالارتياب من الطرف الآخر على نحو يحول دون أن يتخذ هو الخطوة الأولى. تعمل الأسعار على دفع النوايا الحسنة إلى الخارج لأنها ليست مجرد حوافز. فهي تنقل رسائل أيضا. في أبسط الحالات، يمكنها الإشارة إلى أن مجال الحوافز ليس المكان المناسب للمخاوف الأخلاقية. هنا، يقدم بولز المثال المقنع القوي المتعلق بأطفاله، الذين عندما قدم لهم أجرا مقابل القيام بأعمال منزلية كمكمل للمصروف المخصص لهم، توقفوا عن القيام بكل المهام المنزلية. فقد تم القضاء على التزامهم الأخلاقي بالمساعدة في أداء المهام المنزلية. الأهم من ذلك كله -وهنا يتطرق بولز إلى عدد من أهم القضايا في علم النفس الأخلاقي- يمكن أن يستنتجوا الدوافع الأنانية أو غير الموثوقة الخاصة بمصمم الحوافز (سواء أكان صانعا للسياسة أو صانعا للسوق)، أو يكتشفوا أن الحافز هو محاولة لحرمان الاستقلال الذاتي من تحقيق هدفه. بدلا من تحفيز المواطنين أو العمال، تعمل الحوافز الخاطئة على تنفيرهم. الأفراد ليسوا مجرد أدوات تضخيم. فهم سيرفضون الحوافز التي تعاملهم وكأنهم سلع. يكتب بولز: "عندما ينخرط الناس في التجارة وإنتاج السلع والخدمات، والتوفير والاستثمار، والتصويت والدفاع عن السياسات، يحاولون بذلك ليس فقط الحصول على الأشياء، بل أيضا ليكونوا أفرادا منتجين، سواء في أعينهم أو في أعين الآخرين". وتنبع الدوافع السمحة والسلوك الشهم من شعور الأفراد بأنهم أحرار وجديرون بالثقة وقادرون على منحها، وألا يتم معاملتهم كأشخاص هبل أو أحمق. لا أحد يريد أن يكون مجرد لعبة في نظام من المكافآت والعقوبات، على نحو يستجيب فيه آليا لأسعار السوق. في فقرات من هذا القبيل، يبدو بولز شبيها بمفكر أخلاقي لا يظهر اسمه في أي مكان في كتابه: إيمانويل كانط. فكرة أن التفاعلات الاجتماعية يجب أن تكون مقيدة باحترام الذات المستقلة للآخرين تشبه إلى حد كبير الأمر القطعي الكانطي بأنه يجب ألا يتم التعامل مع الآخرين أبدا على أنهم مجرد وسيلة للوصول لغاية معينة. بالطبع، تكون الاختلافات كبيرة. يقدم بولز فكرة نفسية وصفية في حين كان محور حجة كانط هو بالضبط طبيعة الحرية والعقل. مع ذلك، من المثير للاهتمام أن نلاحظ عدد المفكرين الحريصين على التأكيد على أن الناس أنانيون جدا حيث ينتهي بهم الأمر وهو يردد صدى أقوال كانط، الحكيم الذي عاش طيلة حياته في كونيجسبيرج. لحسن الحظ، أن قراءة الكتاب أسهل بكثير (وأقصر بكثير) من كتاب كانط "نقد العقل الخالص". ويتطلب أيضا القليل جدا في مجال المعرفة الفنية بالاقتصاد أو نظرية الألعاب. مع ذلك، لا تعتبر قراءته سهلة، لأن الحجج والأمثلة، على اقتضابها، تتطلب عناية فائقة. وهو يستحق كل هذا الجهد. فنحن جميعا نستشهد بالكليشيه الذي مفاده "ليس لكل شيء ثمن"، على أنه رفض فوري للتحليل الاقتصادي وأنه يناشد فينا اعتبارات أكثر إنسانية. يبين بولز السبب في أنه ينبغي لنا بدلا من ذلك التعامل مع الشعار وكأنه فرضية أساسية للفكر الاقتصادي السليم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES