FINANCIAL TIMES

صحراء نيفادا تجتذب رأسماليي وادي السيليكون

صحراء نيفادا تجتذب رأسماليي وادي السيليكون

لاري هارفي

على بُعد نصف مُجمّع سكني من محطة التلفريك، "جونز جريل" هو ما يُسمى مؤسسة سان فرانسيسكو. المطعم الذي تأسس في عام 1908، يستغل بشكل كبير ظهوره القصير في القصة البوليسية "الباز المالطي" لداشيل هاميت "1929"، باعتباره المكان حيث المُحقق الخاص ذو الشعر الرمادي طلب شرائح اللحم ودخّن سيجارة. جدرانه المُغطّاة بألواح الخشب تحمل صفوفا من صور زبائن المطعم المشاهير، من ألفرد هيتشكوك إلى ستيف جوبز. لقد نجا من الثورة الثقافية المُضادة في الستينيات، ونحو خمسة أو ستة من الزلازل، وعدة دورات من ازدهار وكساد صناعة التكنولوجيا. كذلك فعلت مؤسسة أخرى في سان فرانسيسكو؛ لاري هارفي. قال عندما ألقيت عليه التحيّة خلف المطعم "حسناً، هذا مكان عتيق الطراز، أليس كذلك؟ رائحته مثل الجلد والرجال كبار السن". في عام 1986 اجتمع هارفي وأصدقاؤه حول شكل خشبي يحترق، أثناء حفلة عفوية على شاطئ بيكر في سان فرانسيسكو. لا يزال مكانا حيث مناظر "إنستجرام" المثالية لجسر جولدن جيت يتم إفسادها من قِبل العُراة الكبار في السن، لكن ذلك التجمّع الحميم تحوّل إلى "بيرنينج مان"، أحد أكبر مهرجانات الفنون وأكثرها جموحا. في نهاية هذا الشهر، أكثر من 70 ألف شخص سيجتمعون في صحراء نيفادا لإنشاء مدينة بلاك روك الأثيرية بدون استخدام النقود. بدون مياه أو كهرباء في الموقع، كل منهم يجب أن يجلب ما يكفي من الطعام والماء والملجأ للبقاء على قيد الحياة، فضلاً عن البراعة الفنية والسلع والمهارات التي يُمكنهم تقديمها هدايا للآخرين - كل هذا بدون تبادل أي دولار. هارفي، البالغ من العمر 68 عاماً الآن، هو مدير مهرجان بيرنينج مان و"كبير الإداريين للفلسفة" فيه، وتشتمل مهامه على تحديد موضوع الفن السنوي (هذه المرة هو "ورشة عمل دافنشي"). وهو أيضاً مؤلف "مبادئ" المهرجان العشرة، التي تتضمن "الإدراج الجذري" و"نزع صفة السلعيّة". جنباً إلى جنب مع الفنانين، وروّاد الملاهي والذين يسعون وراء المتعة، أصبحت مدينة بلاك روك مصدر انتباه خاص للرأسماليين الرئيسيين في وادي السيليكون. مؤسسا "جوجل"، لاري بيج وسيرجي برين، هما من المخضرمين، بينما تم تقديم ساندويشات جنبة مشوية لمارك زوكربيرج، مؤسس "فيسبوك"، قبل بضعة أعوام. إيلون ماسك توصّل إلى الفكرة بشأن "سولار سيتي"، شركة الطاقة المتجددة التي يترأسها، على الطريق إلى مدينة بلاك روك في عام 2004. كل عام يجلب تدفقا جديدا من القلق من أن المهووسيين الأثرياء سيُقوّضون بطريقة ما روح المهرجان الجذرية. لكن هارفي حريص على الإشارة إلى أن رجال التكنولوجيا كانوا يأتون منذ ازدهار وكساد فترة الدوت كوم الأخيرة - وأن الناس تكهنوا بزوال مهرجان بيرنينج مان قبل فترة أبعد حتى من ذلك. في حين إن بعضا من أصدقائي وممن أتصل بهم مهنيا هم "من مرتادي المهرجان"، إلا أنني لم أذهب أبداً إلى الصحراء بنفسي. مزيج الغبار والمخدرات و"الاعتماد الجذري على الذات" "مبدأ آخر" لا يزال يُخيفني قليلاً. لحسن الحظ، هارفي لا يسأل ما إذا كنت سأذهب إلى المهرجان هذا العام حتى لحظات قبل الرحيل، بعد نحو ثلاث ساعات من جلوسنا في حُجرة في الزاوية. من خلال وضع زجاجة المياه الخاصة به بيننا مع جيوب قميصه الأسود المُزخرف المليء بالسجائر ودفتر ملاحظات ونظّارات، أجد أنه تقدم في السن مثل رولينج ستون. يقول إن جونز جريل كان بقعة عادية لتناول الغداء عندما كانت مكاتب مهرجان بيرنينج مان قريبة تماماً، في ماركيت ستريت - "قبل إجبارنا على الخروج بسبب ارتفاع الأجرة" قبل ثلاثة أعوام، ظاهرة مألوفة أخرى في الوقت الذي هاجرت فيه شركات التكنولوجيا بضعة أميال إلى الشمال من وادي السيليكون إلى المدينة في الأعوام الأخيرة. على الرغم من تأسيس حدث يتم فيه بيع التذاكر بالكامل مع إيرادات سنوية تزيد على 30 مليون دولار "400 دولار للتذكرة الواحدة"، إلا أن هارفي يُصرّ على أنه والمؤسسين المُشاركين الخمسة معه لم يُصبحوا "من أصحاب المليارات". قبل عامين، حوّلوا مُلكية مهرجان بيرنينج مان إلى منظمة غير ربحية مقابل تعويض مالي لم يُكشف عنه، لن يقول سوى إنه أقل نوعاً ما من مليون دولار. الملفات الضريبية للمؤسسة تُظهر أن راتب هارفي السنوي 197 ألف دولار. لا يزال يستأجر شقته في ساحة ألامو، حديقة التلال التي غالبا ما تظهر مناظرها المُطلّة على وسط المدينة ـ في مواجهة منازل "السيدات المرسومات" من العصر الفكتوري ـ على أغلفة كتب السفر في سان فرانسيسكو. يقول هارفي "إذا تخلصت هذه المدينة على الإطلاق من سيطرة الإيجارات، فإن هذا سيكون يوم الفراق مع روحها"، مُشيراً إلى قاعدة المدينة التي تمنع أصحاب المنازل من رفع الإيجارات أكثر من 1.6 في المائة سنوياً في العقارات القديمة. وقد تم تصميم مهرجان بيرنينج مان، كما يقول، في بيئة "بوهيمية من الإبداع (...) لا يُمكن أن تحدث اليوم". يقترب النادل. هارفي لم ينظر إلى قائمة الطعام، لكنه يطلب روبيان خليج لويس، وهو نوع من السلطة. تحت صورة لداشيل هاميت، تنظر إلينا من جانب الحُجرة، طلبت شرائح لحم الضأن "سام سبيد". سألني هارفي عن استفتاء "خروج بريطانيا" - الحدث الأول في السياسة البريطانية الذي يسألني عنه أي شخص من كاليفورنيا منذ أن انتقلت إلى هنا قبل أربعة أعوام. يضيف "الأمر لا يختلف عما يحدث هنا. لحسن الحظ، يبدو الأمر كما لو أن الجمهورية ليست جاهزة ليحكمها أحد المشاهير النرجسيين". باعتباره "ديمقراطيا طوال حياته"، هارفي واثق من أن هيلاري كلينتون ستكتسح دونالد ترامب وتوقِع به "هزيمة تاريخية". ويقول "سارت الأمور بشكل جميل جداً. بيرني (ساندرز) دفعها إلى اليسار بشكل كبير". طعامنا وصل بسرعة، مع قطعة كبيرة من خبز العجين المُخمّر. كومة صغيرة من الجمبري ووعاء من الزينة يقبع على قمة سلطة كثيفة. شرائح لحم الضأن الأربع الخاصة بي معها بطاطا مشوية، وشرائح طماطم وكوسا رطبة. يُعلّق قائلاً، وهو ينظر إلى وجبتي المملة "هذه هي المدرسة القديمة". سألت ما إذا كان، بعد 30 عاماً، بدأ الشعور بمثل مهرجان بيرنينج مان خارج الصحراء. يقول، ذاكراً مختص الاقتصاد اليميني "أود الاستشهاد بأقوال ميلتون فريدمان بشكل سيئ. لقد قال إن التغيير لا يحدث إلا في الأزمات، وبعد ذلك الإجراءات التي يتم اتّخاذها تعتمد على الأفكار الموجودة فقط". مع "الاستياء من العولمة"، المنتظر أن يستمر، يتوقّع أن الأزمة ستصل بحلول منتصف هذا القرن. "أعتقد أن هناك فعلاً فرصة لحدوث تغيير مُفاجئ". مع ذلك، أبذل جهدا كبيرا من أجل يذكر لي بالضبط أيا من أفكار مرتادي المهرجان يأمل أنها ستكون "موجودة" عندما يحدث ذلك. في الواقع، يُصرّ هارفي أن لديه "حساسية المُحافظين" وأنه "ليس من كبار المعجبين بالثورة". هل أبدو لك كأني من الهبيين؟ أنا لست كذلك!". وينزعج من وصفه بأنه مناهض للرأسمالية، على الرغم من أنه كان يتسكّع مع الهبيين في شارع هايت في عام 1968. يقول "لقد كنت هناك في ربيع وخريف وشتاء الحب، لكن فاتني الصيف"، بسبب تجنيده في الجيش الأمريكي. "كان واضحاً بالنسبة لي أن كل شيء كان قائماً على ما وصفه الروائي توم وولف بأنه (الشيكات من المنزل)". سافر هارفي أول مرة إلى سان فرانسيسكو متنقلا من وسيلة مواصلات إلى أخرى حين كان في سن المراهقة، بعد أن نشأ كحالم غير كفء في ولاية أوريجون الريفية. بعد أن ترك الجامعة، عمل بستانيا للمناظر الطبيعية، من بين وظائف غريبة أخرى. وتزوّج لفترة وجيزة في الثمانينيات، ليُنجب ابناً، قبل أن يُصبح الحدث وظيفته بدوام كامل. من أصوله الحرّة، أصبح مهرجان بيرنينج مان بمثابة عمل جاد. قبل بضعة أعوام، لاري الآخر، المؤسس المُشارك في "جوجل"، ذكر مهرجان بيرنينج مان في كلمة رئيسية ألقاها في أحد المؤتمرات، قائلاً "إنه يتوق إلى مكان دائم حيث يستطيع الناس تجربة أمور جديدة (...) بدون الحاجة إلى نشرها إلى العالم كله". (لقد كان في مدينة بلاك روك هو وبرين، الذي يُقال إنه كان يرتدي لباسا من قطعة واحدة فضي اللون هناك، حيث عيّنا إيريك شميدت ليُصبح "المُشرف البالغ" في الشركة ليتولّى منصب الرئيس التنفيذي). كثير من الآخرين في وادي السيليكون حذوا حذوهما. بعض مرتادي المهرجان منذ فترة طويلة يشعرون بالاستياء من ظهور "معسكرات التوصيل والتشغيل"، حيث يستطيع الأغنياء دفع ما يصل إلى 20 ألف دولار للظهور والخروج، بدون المرور بأسابيع الاستعداد التي يقوم بها معظم الحضور. أصدقائي الذين يُديرون المُعسكر غالباً ما يأخذون إجازة لمدة أسبوع قبل القيادة إلى الصحراء، لطهي الطعام وتكديس شاحنة مستأجرة مليئة بالإمدادات. مع حثّ الجميع على المساهمة في شيء ما، كثير من الفنانين يعملون على تماثيلهم لمدة شهور. مع ذلك، هارفي نفسه يشعر بالقلق من الوجود المتزايد لأصحاب المليارات في مجال التكنولوجيا في مهرجان بيرنينج مان، واصفاً إيّاهم بأنهم "أبناء عمومتنا وجيراننا". ومن "المُثير للسخرية" القول إن المال - المحظور من المهرجان باستثناء الدفع مقابل الثلج والقهوة من مقهى سنتر كامب - هو الشر. يقول "نحن لسنا حركة (احتلوا وول ستريت)"، مُشيراً مع نصف بيضة مسلوقة كان يحملها لعدة دقائق. "الحضارة والتجارة دائماً ما تسيران جنباً إلى جنب. نحن مدينة دولية. نحن لا نستدعي ذلك من لا شيء بالصفير". مهرجان بيرنينج مان انتقل من الشاطئ إلى الصحراء عندما فرضت السلطات ذلك في عام 1990. لكن صحراء بلاك روك أثبتت أنها أكثر من مجرد هرب من الرقابة. كل عام، يُصبح الحدث أكبر، ما يدفع كثيرا من مرتادي المهرجان للتساؤل - أو الانزعاج - حول إلى أي مدى يُمكن أن يُصبح كبيراً. يقول هارفي "إنه ينظر إلى احتمال زيادة ثابتة في الحضور إلى 100 ألف شخص"، (هذا لا يزال يجعله أصغر من جلاستونبري).
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES