ثقافة وفنون

تاريخ «العبور».. البحث عن العناء والعثور عليه بنجاح

تاريخ «العبور».. البحث عن العناء والعثور عليه بنجاح

تكشف الأحداث عن ذلك التباين بين نظرة كل من الصديقتين، وتأجج المكبوت.

تاريخ «العبور».. البحث عن العناء والعثور عليه بنجاح

يتقاطع اللونان الأبيض والأسود في رواية "زنج"، لتتطرق إلى التمييز العنصري ضد البشرة الداكنة.

هناك أعمال أدبية تنضح ألماً وتنقل لنا تلك الهموم التي تعتمر عقل الروائي، وتوقظ فينا وعيا دون أن نشعر بذلك. وذلك ما يعكسه أدب نهضة هارلم أو الأدب الإفريقي الأمريكي الذي نشط في حقبة العشرينيات، وظهر بهدف نقل الثقافة الإفريقية وتحدي العنصرية بأنواعها من خلال الإنتاج الأدبي والفني والموسيقي والسعي في الاندماج المجتمعاتي. تعد رواية "زنج" التي نشرت أول مرة في عام 1929، أحد الأعمال الروائية التي تعكس تلك الحقبة في نيويورك، وهي من تأليف الأمريكية نيلا لارسن وقد نبع إبداعها في هذا الشأن من واقع إحساسها بذلك الاضطهاد، كونها من أب أسود من جزر الهند الغربية وأم دنماركية، وقد جعلت الرواية لارسن إحدى الكاتبات المهمات في نهضة هارلم، وبإشادات نقدية عديدة، وإن لم يحتف بها كما تستحق إذ لم تشتهر شهرة كافية بل تعرضت لإحباط اجتماعي وثقافي أدى إلى انسحابها عن وسط هارلم الأدبي وتوقفها عن الكتابة فيما بعد، وامتد ذلك إلى حياة شخصية مأساوية بعد طلاقها ورفض أختها البيضاء استقبالها في كاليفورنيا، واختفاؤها عقب ذلك. الرواية تم نقلها إلى العربية عن دار الأثر السعودية في عام 2016، وعبر ترجمة الروائي السعودي علي المجنوني، وهو أول عمل طويل يقوم بترجمته بصورة مكتملة وبلغة أدبية، وقد تفاعل مع النص إلى الحد الذي قام فيه بتغيير العنوان الأصلي "العبور" إلى عنوان "زنج" وهو ما أرادت لارسن أن تسمي روايتها به، غير أن ناشرها ألفرد نوبف رفضه. عبور عرقي يتقاطع اللونان الأبيض والأسود في رواية "زنج"، لتتطرق إلى التمييز العنصري ضد البشرة الداكنة من خلال وصف العلاقة ما بين صديقتي الطفولة آيرين وكلير، إذ التقتا بعد مرور سنوات، كلتاهما تحملان جزءاً من أصول إفريقية تعتز آيرين بها فيما تخفيها كلير وتتزوج أبيض وتحاول الاندماج بالمجتمع بتخف على أنها بيضاء البشرة، وذلك ما يشكل ثيمة الرواية أي العبور العرقي، الذي وصفه المترجم بأنه: "ادّعاء فرد من عرق ما انتماءه إلى عرق آخر أوفر حظاً." وبأن تاريخ العبور عبارة عن "تاريخ فقد عظيم، تاريخ هويات مختلطة ومشوشة، تاريخ معاناة يومية، تاريخ اقتلاع من الجذور وصراع بقاء في العراء." صداقة وغيرة الرواية في ظاهرها إعادة إحياء للصداقات القديمة مع تشكك بنوايا الآخرين، وصعود الغيرة الأنثوية الناقدة لآيرين حيال كلير على الرغم من محاولتها الدائمة لفت الانتباه فذلك لا يمنع الأولى من الشعور بغيظ من أنوثتها وقدرتها الغريبة على "تحويل الدفء والشغف لصالحها". "مشكلة كلير أنها لا تريد أن تملك كعكتها وتأكلها فحسب، ولكنها تريد أن تقضم من كعكات الآخرين أيضاً." تدفع تصرفات كلير صديقتها الاستمرار في تحليلها بفضول عصي عن الترويض يوقعها في مآزق فيما بعد. بالأخص وهي تلحظ أن الأخرى تستمد قوتها من مظهرها الشديد البياض الذي تمكنت من خلاله العبور إلى عالم البشرة البيضاء والطبقة المخملية. والنطق بعبارات تظهر شعوراً بالخزي من أصولها: "عرفت أنني لست سيئة المنظر وأني قد "أعبر". تصاعد تدريجي "لم يلعن أناس آخرون مثلما لعن أبناء حام الملونون." الإحساس بالاضطهاد الذي تعكسه الرواية، يأتي تدريجيا من خلال مواقف عارضة هادئة توغل في النفس على الرغم من كونها أقل صخبا، كموقف ارتشاف كوب شاي في أحد الفنادق وتساؤل أقرب للتشكك المهووس: "هل عرفت تلك المرأة أن أمام عينيها مباشرة في سطح فندق الدرايتون تجلس زنجية؟"، مما يعكس تساؤلا حول مدى قدرة البيض على تمييز الزنوج، أو وصف لملامح أصحاب البشرة الداكنة: "كانتا عينين زنجيتين". #2# الأمر الذي يصل أوجه في إفشاء زوج كلير "جاك بيلو" عن استعلائه العلني ومقته للبشرة الداكنة بقوله: "لا زنوج في عائلتي. لم يحدث ولن يحدث أبدا." ومخاطبة زوجته بـ"زنج" دون معرفته بأصولها، ووصفه المازح بأن لونها الأبيض الساحر يتحول تدريجياً إلى داكن. في الحين الذي تقابله فيه بمازوشية غريبة وتقبل للكماته الكلامية، وتناقض ما بين رغبة في الإفشاء ومخالطة العالم "الآخر" وما بين تخوف من ميلاد طفل داكن اللون وافتضاح السر. ويقابل كل ذلك حفل منظم للأمريكيين الأفارقة يظهر عبث الطبقة المخملية من البيض وترف رغبتهم حضور فعالياته، وما في ذلك من تداعيات الاستعلاء العلني والعواقب النفسية والاجتماعية للعبور العرقي. "ذلك النوع من الشعور الذي تحس به في حضور شيء غريب جدا لدرجة أنه يقع على الطرف المقابل من كل أفكارك المعتادة على الجمال." مونولوج داخلي "لم يكن ما شعرت به امتعاضاً بقدر ما كان يأساً بليداً لأنها لا تستطيع أن تغير نفسها بهذا الخصوص." الجميل في هذه الرواية الهادئة هو تلك النظرة الموضوعية التي تنقل الوقائع المجردة من خلال شخصية آيرين ومونولوجها الداخلي، بأسلوب تقريري يكبت الأحاسيس المحمومة مع كظم مستمر للغيث، وتوبيخ لقبولها التورط في أمور عديدة ترغب في رفضها إلا أنها لا تمتلك القدرة على التفوه بذلك أمام سلطة صديقتها البيضاء، على الرغم من سوادها المخفي، مما يعزز من فكرة الطبقة المهمشة المنهزمة. كما تكشف الأحداث عن ذلك التباين بين نظرة كل من الصديقتين، وتأجج المكبوت من الأحاسيس والقلق وعدم الشعور بالأمان مع تزايد احتمال غير معلن لخيانة. فعلى الرغم من قناعة آيرين بأن ما يحدث من تبلد وعدم تفاعل غير مجد إلا أن ذلك لا يؤدي إلى محاولة لتغيير ذلك لتصف نفسها بأنها: "كانت حالة من البحث عن العناء والعثور عليه بنجاح. باختصار." فيما تتلخص كل أفكار آيرين في رفضها وانتقادها لأولئك الذي يحاولون تغيير الهوية والاستعاضة عنه بمحاولة التعايش مع الواقع على الرغم من قسوته، وإيمانها الجازم بأن ما تقوم به كلير سيتسبب في عواقب وخيمة: "تأكدي أن خطيئتك ستعثر عليك في نهاية المطاف."
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون