ثقافة وفنون

«جزيرة الذكور».. رواية مغربية تثير جدل المسافة بين الواقع والمتخيل

«جزيرة الذكور».. رواية مغربية تثير جدل المسافة بين الواقع والمتخيل

الروائي عزيز بنحدوش.

«جزيرة الذكور».. رواية مغربية تثير جدل المسافة بين الواقع والمتخيل

التاريخ حافل بالكتب التي خضعت لسلطة الرقيب فذهب الأخير بينما الكتاب لا يزال مدار حديث.

في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المغرب المعاصر، يدخل عمل روائي صاحبه إلى أروقة العدالة، ويزج به في دهاليز المحكمة، بعدما كاد أن يكون سببا لوضع حد لحياته، جراء الاعتداء الجسدي عليه بالضرب وعلى ممتلكاته بالرجم بالحجارة. ترجع الوقائع إلى ما قبل سنتين، عندما نشر روائي غير معروف يُكنى عزيز بن حدوش، يعمل مُدرسا لمادة الفلسفة في سلك الثانوي التأهيلي، لأزيد من 15 سنة؛ في منطقة تازناخت نواحي مدينة ورزازات في محافظة درعة - تافيلات جنوب شرق المغرب (نحو 496 كيلومترا عن العاصمة الرباط)، ثاني عمل روائي له – بعد رواية أسنان شيطان- وسمه بعنوان "جزيرة الذكور" طول انتظار دام عقدا من الزمن، يفصل بين التأليف (2004) والنشر (2014) على نفقاته الخاصة وبإمكانياته الذاتية الصرفة. القصة وما فيها يقول عزيز بن حدوش، في حديث خاص، أنه ومن موقعه كمدرس للفلسفة وصاحب تكوين جامعي في السيوسيولوجي، استرعى انتباهه ما تتناقله الألسن في اللقاءات الخاصة والجلسات العامة في المنطقة ما كنَّاه في روايته باسم "الأطفال الأشباح"، قياسا على ظاهرة "الموظفين الأشباح" التي كانت تغزو الإدارة حتى الأمس القريب. #2# والمقصود بهم - في السياق المغربي - موظفين يتقاضون أجورا من مؤسسات الدولة دون أن يزاولوا أي عمل فعلي بل لا يذهبون أصلا إلى مقر العمل. عودا إلى الرواية التي تسافر بنا إلى مغرب ما بعد الاستعمار؛ وبالتحديد حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث عمَّت البلاد ظاهرة الهجرة إلى فرنسا التي تولاها فرنسي يدعى "فليبس موغا" الذي أضحى أشهر من نار على علم في القرى والبوادي المغربية، لاعتماده معايير خاصة في الانتقاء، إذ يرتكز بالأساس على ذوي البنية الجسمية القوية. وللتأكد من ذلك يعمد إلى تعريض المرشحين لأشعة الشمس ليوم كامل، وبعدها يدمغ على أجساد المؤهلين بطابع أزرق بينما يضع على المرفوضين خاتما أحمر اللون في وضع أشبه ما يكون بالقطيع منهم إلى كائنات بشرية. بيت القصيد في الرواية ما رافق هذه الهجرة إلى فرنسا من ظواهر، حيث لجأ بعض المهاجرين إلى التحايل على الفرنسيين، بإضافة أبناء آخرين وهميين إلى سجل الحالة المدنية الخاصة بهم، واستخراج شهادات للميلاد؛ بتواطؤ مع أعوان السلطة المحلية (المقدمين والشيوخ)، بغية الحصول على تعويضات مادية عن أطفال لا وجود لهم فعليا، وهو ما توفق الراوي عند وصفه بعبارة "الأطفال الأشباح". طبعا هذا لم يكن لينتهي دون مشاكل لأصحابه عند الرغبة في حذف هؤلاء من سجلات الحالة المدنية، تلافيا لكل التبعات التي قد تعقبه عند الرغبة في تقسيم الإرث، وما جاور ذلك من شؤون محلية. لكن مشاكل هؤلاء أهون من تلك التي تعرض لها صاحب الرواية من التهجم والاعتداء بالضرب والجرح من جانب أشخاص يرون أن متن الرواية يخص حياتهم الشخصية. وهذا ضرب من الكذب والإفك والبهتان، فكل مهتم بالرواية المغربية يدرك يقينا أن صاحب الرواية استعار شخصيات روائية ألفها القراء في الأعمال الروائية المغربية؛ من قبيل "إدريس" لدى المؤرخ عبد الله العروي في روايته "أوراق"، و"موحا" عند الروائي الفرنكفوني الطاهر بن جلون، و"علي" في رواية "المعلم علي" لعبد الكريم غلاب. كل ذلك لم يُثن هؤلاء عن تقديم شكاية جماعية ضد المؤلف أمام النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية بوارزازات، دون أن يحضروا ولو لمرة واحدة جلسات المحكمة التي انتهت أطوارها ابتدائيا، أوائل شهر آب (أغسطس) الجاري بإصدار حكم غريب، في تاريخ القضاء المغربي؛ يقضي بإدانة المؤلف - الذي لم ينتدب محاميا للترافع عنه مبررا ذلك بقوله: «لم أكلف محاميا للترافع عني وهي قناعة شخصية، ورأيت أني أحق بالدفاع عن نفسي ولن يدافع عن روايتي بشكل جيد شخص آخر غيري» -، بشهرين حبسا مع وقف التنفيذ، وغرامة مالية قدرها ألف درهم للمحكمة، وتعويض مدني قدره 20 ألف درهم لأصحاب الدعوى. أذهل منطوق الحكم هذا الأديب الذي علق عليه قائلا: «دخل السيد القاضي التاريخ، لكن لا أعرف من أي باب فقد كان له شرف إدانة الإبداع لأول مرة في تاريخ المغرب». قبل أن يضيف يكشف فيه الدوافع الكامنة وراء تحرك أصحاب الدعوى "أعيان المنطقة" ضده بقوله: "أعتقد أن ما أزعجهم هو محاولة رجل التعليم التطاول على الأسياد والتجرؤ على كتابات من هذا القبيل". كما أذهل أصحاب الاختصاص ممن استغربوا من التكييف القانوني الذي أضافته المحكمة على وقائع النازلة حيث تُوبع الأديب وفق مقتضيات قانون الصحافة، علما أن العمل الأدبي لم ينشر في جريدة أو مجلة. وإنما في شكل كتاب، ما يعني أن القضية تندرج في دائرة الأدب والفن لا الصحافة والإعلام. واعترت الدهشة الأدباء والمهتمين ومعشر القراء ممن استغربوا من تجاهل القاضي لقاعدة أن المؤلف ابن بيته، وكون نصوص الأدباء انعكاسا لما يموج داخل المجتمع. مع احتفاظهم بتلك القدرة التخيلية على تصور وقائع وأحداث ومصائر، قد يكون بعض أحداثها مشابهة لما هو في المجتمع، وهذا ما أعلنه الكاتب في مقدمة روايته. كما أن البعض منهم تساءل أتكون واقعة بن خدوش تحذيرا للكتاب والمبدعين حتى لا يخوض إبداعهم في الكشف عن عيوب المجتمع الأخلاقية والسياسية والاجتماعية؟ خصوصا أن الرواية محملة بجرعة زائدة من الجرأة تجاه بعض القضايا الحساسة في المجتمع المحلي المحافظ. بقي أن نذكر أخيرا أن التاريخ حافل بالكتب التي خضعت لسلطة الرقيب غير أن الأخير ذهب ولا يذكره أحد بينما الكتاب لا يزال مدار الحديث بيننا. فعلى سبيل المثال كان كتاب بودلير "أزهار الشر" في الماضي محل منع ومحاصرة، قبل أن يتحول حاضرا إلى مادة دراسية في المؤسسات التعليمية.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون