العالم

«أردوغان» يفضلها شرقية و«غولن» يريدها غربية .. «سياسات الخارج» تؤجج الداخل

«أردوغان» يفضلها شرقية و«غولن» يريدها غربية .. «سياسات الخارج» تؤجج الداخل

«أصدقاء الأمس .. أعداء اليوم».

"أصدقاء الأمس.. أعداء اليوم"، عبارة من بديهيات السياسة إذا ما كان الحديث عن أشخاص أو في حدود العلاقات الضيقة. ولكن إذا ما أصبح للأمر عمق اجتماعي وجذور تاريخية من الانتماءات والتجاذبات، فهذا ما يجعل كثير من السياسيين والمراقبين حذرين تماما في وصف مآلات مثل هذا النوع من العلاقة. الرئيس التركي طيب رجب أردوغان والداعية فتح الله غولن زعيم جماعة "خدمة" التركية ينطبق عليهما هذا الأمر. فالعلاقة دامت في ودها وتحالفها طويلا قبل أن تؤول لخلافات وأزمات متتالية تصل اليوم أوجها بعد محاولة الانقلاب الفاشل، واتهام أردوغان غولن بالضلوع فيها. فما أبعاد هذا الصراع وخلفياته؟ وحدة أيديولوجية أردوغان وغولن حليفان جمعتهما في وقت سابق أيديولوجية واحدة للنظر في شؤون الدولة ضد نفوذ الجيش التركي وضد "فهم" و"تجاوزات" قادة هذا الجيش للعلمانية الأتاتوركية، التي أسس لها كمال أتاتورك باني وحدة تركيا القومية. فكلا الرجلين ورغم مرجعيتهما "الإسلامية الحزبية" إلا أنهما في تصريحاتهما منذ البدء لم يستعديا العلمانية بمفهومها التأسيسي الأتاتوركي. طمعا في كسب القوميين الأتراك وبعض الأقليات الذين يَرَوْن في وحدة تركيا القومية جسر عبور وخلاص من إرث "الرجل المريض" الإمبراطورية العثمانية. ولكن في المقابل، هذا "الإرث" الإمبراطوري أبقى لتركيا - وفقا لآراء عسكرية واستراتيجية - جيشا من أقوى الجيوش في المنطقة. إذ يعد الجيش الثاني تجهيزا وقوة في حلف الناتو. جيش لقب بـ"صانع الملوك" كناية عن دوره الأساسي في اختيار الحكومة ورئيسها المقبل، إما بالتراضي أو بقوة الانقلاب. حيث الدبابات تعرف طريقها جيدا إلى جسر البوسفور، فيما الحجة دائما حاضرة: "حماية الدستور والجمهورية". ولعل هذا ما أدركته جميع الحكومات المتعاقبة وسياسيوها بمن فيهم الإسلاميون كحزب الرفاه بقيادة "المعلم" نجم الدين أربكان الذي يوصف أيضا بالمؤسس للحركة الإسلامية السياسية الحديثة في تركيا ومن بعده حزب العدالة والتنمية المنشق عنه وجماعة "خدمة" التابعة للداعية فتح الله غولن. خصوصا بعد انقلاب 1997 الذي أطاح بأربكان زعيم حزب الرفاه. ولكن الأكيد أن تركيا قبل هذا الانقلاب ليست هي تركيا بعده ولا الجيش التركي قبل هذ الانقلاب هو الجيش بعده. فخلال أقل من عام قضاه نجم الدين أربكان رئيساً للحكومة التركية، سعى إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا - لمعارضيه من الجيش والحكومة وكأنه يريد استعادة دور "تركيا العثمانية"، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا سبع دول إسلامية. هذه العودة للجذور "التوسعية" العثمانية دوليا لم تسعد الجيش وقياداته فكانت إضافة للاختلاف السياسي حول تجاوزات الجيش تجاه بعض المظاهر الدينية الشعبية، سببا رئيسا لما عرف بانقلاب "ما بعد الحداثة" الذي أتى ليؤكد بحسب الجيش على هوية تركيا القومية الأتاتوركية. خدمات متبادلة ويمكن استعراض الفرق بين تركيا ما قبل هذا الانقلاب وبعده في نقاط: أولا: أظهر استطلاع للرأي قبل انقلاب عام 1997 أن 95 في المائة من الأتراك يثقون بقيادتهم العسكرية. العام الماضي أظهر استطلاع آخر سبق الانتخابات أن 52 في المائة فقط من الأتراك ينظرون للجيش بشكل إيجابي، وربما لهذا حتى مع تراجع شعبية أردوغان تعثر الانقلاب الأخير، سياسيا وشعبيا. ثانيا: حقق هذا الانقلاب تقاربا وائتلافا قويا بين حركات الإسلام السياسي وجماعات معارضة أخرى ما أعطى هذه الحركات زخما شعبيا وسياسيا أوصل حزب العدالة والتنمية المنبثق من رفات حزب الرفاه لسدة الحكم. ثالثا: وجد غولن في أردوغان رفيقاً أيديولوجياً يمكنه أن يوظفه لزيادة نفوذه في السياسة التركية. فكلا الرجلين تلتقي توجهاتهما الأيديولوجية عند هدفين استراتيجيين رئيسيين: "تطهير" الدولة التركية من نفوذ "الأتاتوركيين" وإضعاف نفوذ المؤسسة العسكرية على مفاصل الحكم عبر العمل على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي بدوره يشترط تقليص الصلاحيات والحكم العسكري في البلد الراغب في الانضمام. وكنتيجة لطبيعة هذا التحالف لعبت جماعة "غولن" دوراً فعالاً في محاكمات "أرغنكون" الشهيرة التي طالت أشخاصاً رفيعي المستوى، واتُّهِم فيها نحو 300 ضابط عسكري وصحافي ونائب معارض، بالتآمر سراً لإطاحة حكومة حزب "العدالة والتنمية". دور غولن في محاكمات "أرغنكون" كان مهماً، بتسريبه لمحادثات هاتفية للمتهمين واستخدام التسجيلات ضدهم في المحكمة. ليجد أردوغان نفسه مدينا لغولن ولكن حذرا في الوقت ذاته من تنامي "نفوذ" رفيقه السياسي والاقتصادي الذي اختبره أردوغان هذه المرة بنفسه. لتظهر على سطح العلاقة في بادئ الأمر تجاذبات اقتصادية كنتيجة أكيدة لتغول الجماعتين في اقتصاد البلد ومؤسساته التجارية. فالحديث عن نجاح الاقتصاد التركي وتفوقه يلزمه – بالضرورة - الحديث عن تقاطع مصالح عائلات وأسر نافذة من كلتا الجماعتين أسهمت في تحريك هذا الاقتصاد وتنميته تجاريا وخدميا بأسلوب متواز يحقق الثراء المادي لبرجوازية نافذة من جهة والكسب الشعبي السياسي من جهة أخرى. يذكر أن جماعة غولن فقط يقدر ما تمتلكه من ثروة عن عملياتها في تركيا ما بين 25 إلى 30 مليار دولار. «انفجار» الخلاف ورغم ذلك كان بالإمكان دائما تجاوز الهنات الاقتصادية والأيديولوجية بين الطرفين. إلى أن جاءت حادثة أسطول الحرية التي راح ضحيتها عدد من المواطنين الأتراك قتلوا إثر هجوم على سفينة "مافي مرمرة" عام 2010 منبع الخلاف السياسي المستدام بين جماعتي أردوغان وغولن. فالأخير لم يكن يجد مبررا لتصعيد الوضع مع الإسرائيليين وتوثيقه مع إيران في تلك الفترة. في حين كان أردوغان وحزبه يتطلعون لما هو أبعد قياديا على المستوى الإقليمي إذ يستعدون لاستعادة رؤى "المعلم" أربكان. وهو ما انعكس جليا على توجهات الرئاسة التركية وسياساتها تجاه أحداث 2011 ووقوفهم بإصرار إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين الحليف الأيديولوجي في المنطقة لحزب العدالة والتنمية التركي وعوضا عن سياسة "تصفير المشاكل" التي عرفت بها أنقرة في المنطقة بدأ "تدوير المشاكل" في اتجاهات لا نهائية. وفي المقابل، غولن المقيم في المنفى الأمريكي، نجح في عقد علاقات أمريكية وإسرائيلية استثنائية أصبحت مهددة بقطع العلاقات مع إسرائيل وبتوثيقها مع طهران. كما رأى غولن في إخلال أردوغان بالعمل سويا من أجل الانضمام للاتحاد الأوروبي - بعد إضعاف نفوذ المؤسسة العسكرية - انقلابا مقصودا على الاتفاق بين الجماعتين. وهنا تصاعد الخلاف السياسي ليبلغ أوجه مع تضييق الخناق على جماعة غولن اجتماعيا واقتصاديا بعد ملاحقتها من الحكومة ووصفها رسميا بالكيان الموازي لتكتمل صورة المشهد العدائي إثر اندلاع المظاهرات في حديقة "غازي بارك" عام 2013. اللافت أن غولن وجماعته استخدموا لإثارة هذه الحشود تجاه أردوغان أسلوب "المكالمات المسربة" لكشف ما عدوه فسادا اقتصاديا تمارسه الحكومة، وهو الأسلوب نفسه الذي سبق واستخدمته الجماعتان إبان حلفهما سويا، تجاه بعض العسكر وبعض الجهات المعارضة لهما. «اجتثاث» الداخل الصراع المحكم بين أردوغان وغولن ليس أيديولوجيا أو حول تفاصيل إدارة المجتمع محليا كما يصوره البعض، وإلا لما اتفقا منذ البدء، بل هو صراع سياسي استراتيجي حول توجه الدولة وطبيعة حلفاء المنطقة في المقام الأول لتفجيره لاحقا محاولة الانقلاب الأخير واحتمالات ضلوع غولن وجماعته فيها في ظل منافسة اجتماعية واقتصادية بين الجماعتين لم تعد تحتمل إطالة أمد هذا الحلف الداخلي الذي باتت تتنازعه خارجيا حسابات دولية مختلفة تنبه لها الرئيس أردوغان أخيرا حين أعاد بصورة مفاجئة تطبيع العلاقات مع إسرائيل وروسيا فيما فسر بعد ذلك بوصفه قراءة استباقية لهذا الانقلاب وأبعاده الدولية وفي محاولة لقطع الطريق تماما على جماعة غولن من جهة والأكراد من جهة أخرى. أما على صعيد علاقة طهران - أنقرة التي يعارضها غولن فلا تزال دافئة وذات أبعاد اقتصادية مميزة رغم الملف السوري العالق، إذ كانت إيران أول دولة أدانت محاولة الانقلاب العسكري في تركيا وعلى الفور قرر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الانعقاد للبحث فيما جرى في تركيا وتداعياته على المستويين الداخلي والإقليمي، وترأس الرئيس الإيراني حسن روحاني ذلك الاجتماع. يذكر أن التبادل التجاري زاد بين البلدين إلى 17 مليار دولار وكان الرئيس روحاني قد أكد أنه سيتم زيادته فى الفترة المقبلة إلى 21 مليار دولار. وبالطبع، فإن مخاوف طهران المعزولة عن محيطها قد تتضاعف لمجرد التفكير في أن قادة الانقلاب فى حالة نجاحهم سيوقفون ذلك التعاون. يبقى أن "بوصلة السياسة" واتجاهات تحالفاتها الخارجية شرقا أم غربا لعبت دورا أساسيا في تعميق هذا الخلاف بين الرجلين، ليصل أوجه بإقرار أردوغان بدء عملية "التطهير" الحكومي لكثير من المنظمات التعليمية والصحية والخدمية المرتبطة بجماعة غولن فضلا عن "إعادة هيكلة" الجيش كرد فعل على محاولة الانقلاب الفاشلة. ولكن يبقى السؤال مطروحا: هل بالإمكان اقتلاع الأفكار وإعادة هيكلة البنى التحتية التي عمل غولن وجماعته على بثها وغرسها مطولا في بنى المجتمع التركي وفي حياة كثير من أبنائه بمن فيهم أعضاء يحسبون على العدالة والتنمية؟ العملية متشابكة جدا ومعقدة وفقا لمراقبين، ومن الخطورة بمكان وضع تماسك البنى الداخلية للبلد اقتصاديا واجتماعيا عرضة للاجتثاث وتحت رحمة تلون الرؤى السياسية الخارجية واختلافها.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم