ثقافة وفنون

«العزلة» .. تسلبنا التعاطف ولكن لا تمنعنا الانتظار

«العزلة» .. تسلبنا التعاطف ولكن لا تمنعنا الانتظار

ما يعزز التصور الكامل لما يجري في عقل "ستون"، تجسيد جميع الشخصيات على هيئة دمى تظهر عليها خطوط تتقاطع في الجباه.

«العزلة» .. تسلبنا التعاطف ولكن لا تمنعنا الانتظار

أنومالي" تعني الخروج عن المألوف.

"ما معنى أن تكون إنساناً؟ ما معنى أن تشعر بالألم؟ ما معنى أن تكون على قيد الحياة؟" من المبهر وأنت تراقب فيلم أنيميشن تكاد تشك أنه مخصص للأطفال كونه أشبه بالرسوم المتحركة، لتكتشف أنه درامي نفسي بامتياز كالفيلم الأمريكي "أنوماليزا"، المخصص للراشدين بل ويحوي ما لا يناسب صغار السن من مشاهد وألفاظ. ليس ذلك بمستغرب عند اكتشافك أن مخرج ومعد السيناريو هو شارلي كوفمان إلى جانب المخرج دوك جونسون في نهاية عام 2015، والمقتبس من مسرحية صوتية لكوفمان بالعنوان نفسه، ليترشح لعدد كبير من الجوائز بما فيها جائزة الأوسكار والجولدن جلوب لأفضل فيلم أنيميشن. يأتي نجاح الفيلم على غرار أفلام أخرى رائعة له أبرزها فيلم "إشراقة أبدية لعقل نظيف" و"ذاتية جون مالكوفيتش"، وهو يرفل في أفلامه بثيمات تتطرق إلى أزمة الهوية ومعاني الحياة والسقوط في هاوية التأزم النفسي والقلق الوجودي من خلال مشاهد تتسم باختلاطها بمشاهد سريالية أثيرية. الفيلم يغرق في التحليل النفسي، وتحليل طبيعة النفس البشرية من خلال شخصية كرتونية لكاتب بريطاني يدعى مايكل ستون مختص في التواصل الاجتماعي، يروّج لكتاب ألفه عن كيفية التعامل مع الآخرين، وعلى الرغم من أن ذلك قد ينمّ عن شخصية منطلقة متفائلة إلا أنه يظهر كشخص انعزالي مصاب بحالة اكتئاب مزمن والتهرب من الآخرين وعدم القدرة على التواصل معهم أو حتى الشعور بالتعاطف، وكأن وجودهم لا يعطيه إلا مجرد شعور نزق بالانزعاج من الأصوات ومحاولة التملص من أي حوار معهم مهما كان نوعه. "وقتنا محدود. ننسى ذلك." الفيلم يظهر ساخراً من كل شيء بدءًا بالشخصية المحورية مايكل، وكأنه على الرغم من تفضيله الالتفاف التام بالعزلة، يصاب فجأة بأزمة منتصف العمر ومحاولة التخلص من القيود الاجتماعية والأسرية واختيار مسار آخر للحياة بعيداً في ملاحقة للعاطفة، وذلك عند التقائه العارضي بليزا وافتتانه بها وبالأخص بصوتها. تظهر هنا المفارقة في قدرة الأنيميشن على صهر الشخصيات وتغيير الأصوات دون تنفير من المشاهد، إذ يظهر مايكل ستون طوال أحداث الفيلم وكأنه يسمع صوتاً موحداً لجميع الشخصيات التي تواجهه والتي تظهر وكأنها أصوات ذكورية منفرة، باستثناء صوت ليزا الذي يجعله متسمراً مطالباً لها بالغناء والتحدث دون توقف وإن وصلت الأحاديث إلى انعدام معانيها. والجميل هو أن وقوعه في حب ليزا ليس كونها متميزة في مظهر أو إبداع ما، فهي امرأة خجولة منعدمة الثقة بالنفس مصابة بتشوه في جزء من وجهها إثر حادث تتمنع عن الحديث عنه. ولم يمنع ذلك من انبهاره الشديد بها. وكأن ذلك يعزز من نظرية حالة التوهم في الحب في بداياته. وذلك ما يؤدي إلى اختياره لها لقب "أنوماليزا" المشتق من "أنومالي" بمعنى الشذوذ أو الخروج عن المألوف، دامجاً بها اسمها بصفة الاختلاف. الفيلم يسترسل في وصف مراحل الحب المختلفة التي يشعر بها المرء وإن كان انعزالياً كحال مايكل ستون. بدءاً بمرحلة الافتتان ووصف شخصية المحبوب بالكمال ورؤية كل الخصال حتى المستنكر منها جميلة، ليستحيل ذلك في المرحلة الأخيرة من الحب مقتاً للصفات ذاتها، وإحساس بانزعاج منها ورغبة في التهرب وتمني إنهاء كل شيء. بل وتخيل صوتها يتغير تدريجياً ليستحيل إلى صوت الآخرين الذكوري المزعج بتصوير سينمائي ومؤثرات صوتية دامجة للأصوات بشكل رائع. #2# والبديع في الفيلم اختياره ثلاثة ممثلين فقط بأعمار ناضجة لتأدية الأصوات، جميعهم يمتلك خبرة في إخراج الأفلام وهو ما يضفي مرئياتهم ولمساتهم حيال الفيلم، ما بين الممثل البريطاني المبدع ديفيد ثيوليس لتأدية صوت مايكل ستون، والذي مثل في عدد ضخم من الأفلام الشهيرة مثل "هاري بوتر" و"نظرية كل شيء"، فيما قامت بتأدية صوت ليزا الأمريكية جنيفر جايسون لي التي تميز صوتها في الفيلم بقدرته على التعبير عن حالة انبهارها تارة وذهولها تارة أخرى وإحباطها أخيراً. أما بقية الشخصيات فجميعها بما فيها من إناث وذكور بصوت ذكوري موحد للممثل توم نونان والذي تحمل عبء تأدية أصوات بقية الشخصيات في الفيلم بصوت موحد. تلك الوحدة بالصوت تأتي من هلوسات وهواجس مايكل ستون وتوهمه أن جميع الأشخاص المحيطين به ليسوا إلا شخصاً واحداً يتغير شكله. ومما يعزز من التصور الكامل لما يجري في عقل ستون، تجسيد جميع الشخصيات على هيئة دمى تظهر عليها خطوط تتقاطع في الجباه. وذلك يعزز ما يبدو وكأن المخرج يحاول تجسيده، وهو إصابة الكاتب ستون بمتلازمة فريجولي التي تعزز من شعوره بحالة التوهم التي تدفعه إلى مرحلة عدم التعرف إلى ملامح وجهه وتخيله يبدو كشخص آخر، وفي حالات أكثر تعقيداً سقوط قناع وجهه فجأة والتقاطه له بهلع، وكأنه مصاب بأزمة الهوية التي تصيبه بحالة ذعر وعدم قدرة على مواكبة الأحداث المحيطة به. يأتي اختيار الفندق الذي يقطنه مايكل بمسمى فندق "فريجولي" ليعزز من الإشارة إلى الحالة النادرة وهي أزمة التواصل مع الآخرين. ما يجعل الفيلم أقرب للمشاهد وإن كان على نمط الأنيميشن، كونه أجواء أقرب للواقعية، وتصويراً سينمائياً بديعاً بألوان باهتة تظهر الحالة النفسية الكئيبة للكاتب ستون. تظهر أحداث اعتيادية كاستهلال الفيلم بمايكل وهو في قلب سيارة أجرة في طريقه إلى الفندق، وإكماله إجراءات الدخول إلى غرفته وتجوله في ردهة الفندق، الأمر الذي يضفي نمطية سلوكيات أي نزيل، لتتعاقب فيما بعد أحداث سريالية لرجل كاد أن يفقد عقله، وشعر بمطاردة الآخرين له ومحاولة منعه الحصول على ما يريد. فيلم "أنوماليزا" يغرق في وصف حالة الانهيار النفسي وانعدام القدرة على التواصل مع الآخرين، والشعور بالهلع في حال الاضطرار لمخالطتهم، حين تصبح العزلة حلاً وشعوراً براحة أبدية لمن يفضلها، الأمر الذي يجعل ستون منعدم القدرة على التعاطف مع أي شخص بمن فيهم زوجته وابنه، مما يأتي كمفارقة وقت ظهور ليزا في حياته وإيمانه المفاجئ إذ تذكّر بأن "هناك على الدوام شخصا ما ينتظر شخصاً آخر".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون