ثقافة وفنون

«سيوران»: الآخرون يسقطون في الزمن.. وأنا سقطت من الزمن

«سيوران»: الآخرون يسقطون في الزمن.. وأنا سقطت من الزمن

سيوران: "ماذا تفعل من الصباح إلى المساء؟ يسأله أحدهم، أو يُسائل نفسه. الإجابة: أُعاني".

«سيوران»: الآخرون يسقطون في الزمن.. وأنا سقطت من الزمن

"لا أكون أنا – أنا إلا إذا كنت تحت أنايَ أو فوقها، وقت الغضب أو وقت الانهيار".

" كل تعليق على كتاب أمر سيئ أو غير مجدٍ، فكل ما لا يأتي مباشرة لا قيمة له"، هكذا تحدّث ميل سيوران في كتابه "قياس المرارات"، وهو قول لم يتراجع عنه في آخر كتبه الموسومة بعنوان "الاعترافات واللعنات"، إذ يقول: "لا ينبغي الكتابة عن أحد، أبدًا. لقد اقتنعت بجدوى هذه الفكرة إلى درجة أنني كلما مِلتُ إلى فعل ذلك، كانت فكرتي الأولى أن أهاجم الشخص الذي سأكتب عنه، حتى وإن كنت معجبا به". كل هذه الأقوال لن تحول دوننا والحديث عن هذا الروماني الأصل المنفي اختيارا إلى فرنسا، التي عايش فيها زمن الحداثة وما بعد الحداثة (1911–1995)، لكنه فضل الابتعاد عن المعنى والانتماءات وخوض تجربة اللامعنى والحياد. ميل سيوران ليس فيلسوفاً بالمعنى الدقيق للكلمة، كما أنه ليس شاعرا للاعتبار ذاته، لذا يمكن وصفه بفيلسوف بنكهة شاعرية ونفَسٍ صوفي (الفلسفة، الشعر، العرفان). جنحت فلسفته إلى الغضب والمساءلة والاحتجاج والتذمر من كل شيء؛ بما في ذلك نفسه أحيانا. كان ضحية لعنة المفارقات التي طاردته منذ طفولته، في إحدى قرى مدينة ترانسيلفانيا الرومانية؛ فأبوه كان كاهن الطائفة الأرثوذكسية في القرية في وقت لا تتردد فيه أمه في إساءة الظن – وبكل صراحة - بما يتصل بالدين واللاهوت المسيحي. أفرزت تلك المفارقات الكثيرة في حياته (الهجرة، الرحيل، تغيير اللغة، والابتعاد عن الثقافة...) نوعا من التماهي المطلق بين أفكار وحياة هذا الرجل، ولن نبالغ إذا قلنا إن فلسفة سيوران أيقونة نفسه القلقة وروحه المتمردة ومزاجه الحاد، ونتيجة لهذه العلاقة الوثيقة بين فكره وحياته، جاءت أعماله مخالفة للفلسفة بمعناها التقليدي. أضرب فيلسوف السخرية عن الحياة إضرابا كليا، إلا عن الكتابة التي اعتبرها منقذة له من الانتحار، بعدما سئم معاناة الحياة التي قال عنها: "ماذا تفعل من الصباح إلى المساء؟ يسأله أحدهم، أو يُسائل نفسه. الإجابة: أُعاني". انتصر الرجل في كتاباته إلى مقولة نيتشه "أحلمُ أن أقول بجملة واحدة، ما يقوله غيري في كتاب"، فأبَدع غاية الإبداع والإمتاع في أسلوب الكتابة الشذرية (المقطعية)، وعلَّق على هذا النمط في الكتابة بقوله: "الشذرة هي الشكل الوحيد الملائم لمزاجي، تمثل كبرياء لحظة مُحوَّلة مع كل التناقضات التي تحتويها. إن عملا ذا نفس طويل، وخاضعا لمتطلبات البناء ومزيفا بهاجس التتابع، لهو عمل من الإفراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حقيقيا". ساد هذا الأسلوب في أغلب أعماله البالغة خمسة عشر مؤلفا؛ منها أربعة فقط بلغته الأم الرومانية، والباقي بلغة المنفى الاختياري الفرنسية. وكانت باكورة تلك الأعمال في ريعان شبابه عن عمر يُناهز 23 سنة، حينما قرر تحويل هجوم مرض الأرق عليه إلى وسيلة للمعرفة، فألّف كتابه "على ذرى اليأس" الذي نشره عام 1934. توالت بعد ذلك العناوين "كتاب الخدع"، "دموع وقديسون"، "غروب الأفكار"، "التاريخ واليوتوبيا"، "السقوط في الزمن"، "مثالب الولادة"، "التمزق"، "تمارين الإعجاب"... مستفزة القراء دون أن يكون الأمر غايته، فهو يعلِنها صراحة وبكل هدوء: "الكتب الوحيدة التي تستحق أن تُكتب، هي تلك التي يؤلفها أصحابها من دون أن يفكروا في القراء، ومن دون أن يفكروا في أي جدوى، وفي أي مردود". ويأسِر قراءه في الوقت ذاته بقوله: "ألتزمُ بكل كلمة في هذا الكتاب، الذي نستطيع فتحه من أي صفحة وليس من الضروري قراءته كله". #2# منحت العزلة الإجبارية عن المجتمع التي وضع فيها الرجل نفسه قدرا هائلاً من التأمل، الذي فضّله على الحياة اليومية العادية؛ فالرجل لم يؤمن يوما لا بالشارع ولا بالرأي العام بل قاطع الإعلام والصحافة والجمهور، ورفض كل الجوائز التي قُدمت له مرددا: "سُكنى بالوعة ولا الوقوف على منصة تتويج". وكيف له ذلك، وهو يشك ويسخر من جدوى أي شيء: " قالت لي سيدة مطّلعة: أنت ضد كل ما أُنجِز منذ الحرب الأخيرة. لقد أخطأتِ التاريخ. أنا ضد كل ما أنجِزَ منذ آدم". يُعلق على تلك العزلة في إحدى الحوارات النادرة معه بقوله: "بقيتُ مجهولا تماما طيلة ثلاثين عاما. وكانت كتُبي لا تباع قط. لقد تقبلت ذلك الوضع جيدا لأنه يناسب رؤيتي للأشياء. الأعوام الوحيدة المهمة هي تلك التي عشتُها مجهولا. أن تكون مجهولا ففي ذلك لذّة - مع جوانب من المرارة أحيانا. لكنها حالة خارقة". لن يكتمل الحديث عن "ملك المتشائمين" دون أن ندع له مساحة يتحدث فيها عن نفسه، خصوصا أنه يكره أن يتحدث الآخرون عنه وباسمه، من خلال منتخبات توقفنا عندها في بعض كتبه - ترجم منها إلى اللغة العربية حتى الآن ثلاثة فقط: "مثالب الولادة"، "تاريخ ويوتوبيا"، "قياس المرارات" بعنوان آخر"المياه كلها بلون الغرق" -، التي يُنسيك الواحد منها في الآخر بموضوعات أثيرة: الشر، الخلاص، التاريخ، الانحطاط، القداسة، الزمن،... وكيف ما كان اللسان الذي تقرؤها به عربيا أو فرنسياً. يقول سيوران عن نفسه: "أنا إنسان يزعجهُ كل شيء أريد عدم الإزعاج، عدم الاهتمام بي، أجتهد كي أجعل الآخرين لا يُعيرونني أي انتباه"، ويضيف واصفا وعيه بذاته "لا أكون أنا – أنا إلا إذا كنت تحت أنايَ أو فوقها، وقت الغضب أو وقت الانهيار؛ عندما أكون في مستواي المعتاد لا أدرك أنني موجود". وعن سؤال الانتماء يجيب "الانتماء، أشعر أنني منفصل عن كل البلدان، وعن كل المجموعات. أنا متشرد ميتافيزيقي. أُشبه قليلا أولئك الرواقيين في نهاية الإمبراطورية الرومانية، والذين كانوا يشعرون بأنهم "مواطنو العالم" الأمر الذي يعني أنهم مواطنو اللامكان". وعن نظرته للزمن الذي شغل حيِّزا مهما من أعماله قال: "الآخرون يسقطون في الزمن؛ أما أنا فقد سقطت من الزمن"، وبسخريته اللاذعة يقول: "جالسونَ على عتبةِ الزمن، نتأملُ عبورَ اللحظات، ننتهي إلى اكتشافِ متسلسلٍ دونَ مضمون، زمن فقدَ مادته، زمن مجرد، صياغة جديدة لفراغنا. من تجريد إلى آخر، يتضاءلُ الزمن بسببنا مُنكمشا إلى حادث، إلى ظلِ نفسه. تعودُ إلينا مسألةُ إعطاء حياة للزمن ومسألة اتخاذ إجراء واضح في حقه، أن نسلكَ تجاههُ سلوكا لا لبسَ فيه. لكن أنّى لنا بهذا، في ظل المشاعر المتنافرة التي يُثيرها، من نوبات الاشمئزازِ إلى الافتتان؟". ويصف نظرته إلى الزمن من خلال الألم قائلا: "الألم يجعلك تعيش الزمن في تفاصيله، لحظة لحظة. فلا حاجة إلى التساؤل عما إذا كان موجودا بالنسبة إليك. إنه ينزلق على الآخرين، على الذين لا يتألمون؛ لذلك يمكن القول إنهم لا يعيشون في الزمن، وربما لم يعيشوا فيه قط". ويُعلق على وجوده ساخرا: "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر روحه؟ أن يربح العالم ويخسر روحه؟ أنا فعلت أفضل من ذلك. خسرت الاثنين معا".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون