ثقافة وفنون

صائدو «الوحوش الأليفة».. مطاردة «البوكيمون» طاقة كامنة أم وعكة روحية؟

صائدو «الوحوش الأليفة».. مطاردة «البوكيمون» طاقة كامنة أم وعكة روحية؟

فكرة "الافتراض" بكل أشكالها لم تعد فكرة زائفة.

صائدو «الوحوش الأليفة».. مطاردة «البوكيمون» طاقة كامنة أم وعكة روحية؟

"ربما.. هو ساخرٌ متمرِّسٌ في وصف حالتنا؟".

لم يكن الصبي الياباني "ساوتشي تاجوري" يتوقع أن هواية جمع الحيوانات والحشرات المحببة لنفسه كواقع لا يتعدى حدود مدينته الصغيرة، ستصبح يوما هوسا معولما. يبذل من أجله الكثيرون مسافات طويلة من البحث والمخاطر. على غرار عصور بدائية قديمة كان الصيد فيها وجمع الثمار هو الفرصة الوحيدة لبقاء الإنسان وتناسله. لكن "الحاجة" أم الخيال والاختراع التي ألهمت الإنسان بدايات "التقنية" ليصنع رمحه الأول. هي ذاتها التي أخذته لاحقا لابتكار أدواته وألعابه التكنولوجية، ليحاكي واقعه حينا، وليتجاوز هذا الواقع في أكثر الأحيان. تحذيرات ومخاوف وكما كان "تاجوري" وفيا لطفولته وإعادة إحيائها عبر ابتكاره لأول ظهور تسويقي للعبة "بوكيمون" على أجهزة ألعاب نينتندو بداية الألفية. وما رافق ذلك في الجهة المقابلة من العالم من تحذيرات ومخاوف عربية، مشابهة لما يرافق الإصدار الحديث منها. يتكرر اليوم هذا الوفاء ولكن في شكل مؤسسي اجتمعت له العبقريتان اليابانية والأمريكية، ممثلة في شركة جوجل وخرائطها المعروفة. لتقديم نسخة أكثر تفاعلا وتطورا لهذه "الوحوش الأليفة" التي أحبها وأخلص لها أطفال جيل مضى تحت مسمى جديد: "بوكيمون جو". اليوم، الهوس لم يعد محصورا في عمر دون الآخر أو بجنس أكثر من آخر. الكل يحمل "رمحه" أو هاتفه المحمول. ليمضي هائما على وجهه، قاصدا المراتع المُحتملة لهذه الحيوانات المفترضة. ولكن اللافت في هذا العصر الرقمي مقارنة بالحجري أن توزيع الطرائد وأماكن وجودها. لم يعد مرتبطا بخصائص طبيعية أوتضاريس جغرافية. ولا بطاقة الإنسان أو مقدار جوعه. بقدر ما يرتبط بخوارزميات برمجية يضعها مخترعو اللعبة ومطوروها عن سابق إصرار معلوماتي وترصد تسويقي. يقول المختصون والمهتمون بعالم الألعاب "لا علاقة للأمر بالمؤامرة الخفية" كما يتصور البعض، لكن الأمر أيضا لا يخل ضمن مصالح ثقافية ومكاسب مالية تسعى شركات التكنولوجيا باستمرار لتنميتها بتطوير مزيد من الابتكارات وتسويقها في سوق تكنولوجي وترفيهي، شهيته لا تزال وستظل دائما مفتوحة لما هو أكثر وأكبر. روحانية تقنية وعلى الرغم من تكرار تداول كثير من الآراء الدينية والثقافية المعارضة لـ "بوكيمون" من خلال التطرق لأشكاله ومرجعياته غير المألوفة، إلا أن الحقيقة منذ انطلاق هذه اللعبة وصولا لشكلها الحالي يؤكد أن "بوكيمون" كـ "طريدة" ليس هو المهم في عصر "الصيد الرقمي"، المهم هو البحث والتفاعل والتواصل لقتل الوقت بحسب البعض، وللشعور ــ ولو للحظات ــ بالإنجاز عبر مكافآت رمزية تتيحها هذه الألعاب. ففي 2006 كتبت آن أليسون، الباحثة في شؤون اليابان المعاصر في كتابها "الوحوش الأليفة"، أن ظواهر الثقافة الشعبية مثل بوكيمون تمثل نوعا من "الروحانية التقنية" التي تصبغ التكنولوجيا الرقمية بصبغة روحية. #2# وينغرس هذا النوع من الروحانية في السلع ذات النزعة الاستهلاكية، حيث تُستَخدم الروابط العاطفية بين الناس والأشياء للترويج للمنتجات، لكنها أيضا تمثل سبيلا لمواجهة تفكيك الحياة العصرية عن طريق السماح للمستخدمين بإيجاد معنى وتواصل وحميمية في حياتهم اليومية، وفقا لما جاء في صحيفة "ذي قارديان" البريطانية. وإضافة إلى التسلية وما إلى ذلك، وفقا لموقع Physchcentral، هناك تقارير تشير إلى أن اللعبة، قد تساعد القوة العقلية لمستخدميها ومرضى الاكتئاب. وتضمن التقرير تغريدات لمرضى الاكتئاب، عبروا فيها كيف أن اللعبة ساعدتهم على تغيير مزاجهم وتخطي نوبات القلق/ الحصر النفسي، والاكتئاب. ومن المعلوم أن التدريبات تساعد كثيرا على التخلص من الاكتئاب، ولكن التحفيز في أثناء التدريب حال إصابتك بالاكتئاب، فهذا تحد، ولهذا فالألعاب التفاعلية مثل "بوكيمون جو" مؤثرة للغاية، إذ تُشجع اللعبة مستخدميها على الخروج والبحث ومخالطة الآخرين، وتحفزهم على ذلك، وهو ما يعد من أصعب الأمور لدى مرضى الاكتئاب ــ وفقا للتقرير. بحثا عن «لا شيء» اللعبة لا تختلف كثيرا عما تقدمه أحاسيس الشبع والرضا والتواصل، التي كان يحققها الإنسان البدائي حتى مع اختلاف سبيل الوصول والطريدة المستهدفة. فيما يبقى الخيال البشري الذي ساعد كثيرا على ابتكار التقنيات البدائية، كما ساعد على ابتكار التكنولوجيا الحالية، العامل المشترك بين جميع العصور ال،نسانية. فهو الذي قاد ثورات الانتقال من الصيد إلى الصناعة مرورا بالزراعة، بينما تجير هذه النجاحات والإبداعات للعقل بمجمله، ولكن تبقى "المعرفة" ومنجزاتها العلمية والعملية، مدينة لهذا "الخيال" في جنونه وخروجه عن المألوف أكثر بكثير من منطقية العقل وثباته. يبقى أن فكرة "اللاشيء" أو "الافتراض" والبحث عنهما وفيهما التي يقوم عليها "بوكيمون" وغيره كثير من برامج اليوم، بل الاقتصادات المعرفية العالمية، لم تعد فكرة زائفة كما جادل بشأنها منذ زمن الفيلسوف والمفكر بيرجسون Bergson، فقط لأنه "في الواقع لا يمكن تخيلها ولا التفكير فيها". فهكذا وبفعل الخيال الجريء "يتناسل اللاشيء من لا شيء آخرَ" كما يقول الشاعر محمود درويش لتتحقق المعرفة. وليحق لنا أن نتساءل مع درويش ونحن في طريق البحث والمتعة: "ما هو اللاشيء هذا السيِّدُ المتجدِّدُ؟ المتعدِّدُ، المتجبرّ، المتكبرِّ، اللزجُ المُهَرِّجُ.. ما هو اللاشيء هذا ربُمَّا هو وعكةٌ رُوحيَّةٌ أو طاقةٌ مكبوتةٌ أو، ربما هو ساخرٌ متمرِّسٌ في وصف حالتنا؟".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون