Author

أسئلة أوروبية من زخم «الزهايمر» البريطاني

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"يمكنني أن أجمع كل أوروبا مع بعضها بعضا، ولا يمكنني أن أجمع امرأتين مع بعضهما" ملك فرنسا الراحل لويس الرابع عشر ليس هناك أكثر دلالة على الاستفتاء البريطاني العام الذي حمل المملكة المتحدة إلى خارج الاتحاد الأوروبي، إلا قيام أكثر من أربعة ملايين بريطاني في أقل من ثلاثة أسابيع، بالتوقيع على عريضة مقدمة للحكومة تطلب إعادة الاستفتاء مجددا، على أمل أن توافق وبالتالي تتراجع نسبة من أولئك الذين صوتوا لمصلحة الانفصال عن الاتحاد. هذا يؤكد مرة أخرى الاضطراب الذي أحدثته نتيجة الاستفتاء التاريخي، ليس في معسكر المؤيدين للبقاء، بل أيضا في كتلة الداعمين للخروج. فشريحة من الانفصاليين وجدت بالفعل أن ما كان يقال عن مصائب الانفصال بات صحيحا، من ناحية تراجع الجنيه الاسترليني، وتحرك الشركات والمؤسسات الكبرى ولا سيما المالية منها لنقل مقارها خارج بريطانيا، فضلا عن الخوف من سلسلة مفاوضات مضنية مع بلدان العالم خارج الاتحاد الأوروبي تختص باتفاقات التجارة. وغير ذلك من المنغصات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، ناهيك بالطبع عن انقسام المجتمع البريطاني تقريبا حيال المسألة برمتها. العريضة مهمة ولكنها ليست فاعلة، لأن الحكومة ردت بهدوء "وربما بحسرة" على أنه لا يمكنها إعادة الاستفتاء، خصوصا عندما اعتبره رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أقوى ممارسة ديمقراطية حقيقية في تاريخ بلاده. التركيز الآن على مفاوضات الانفصال ليس إلا. وحجة أصحاب العريضة الكبرى مقنعة لكن لا مكان لها. وهي تستند إلى قاعدة تفيد "بأنه إذا كان التصويت على البقاء أو الخروج (من الاتحاد الأوروبي) يستند إلى أقل من 60 في المائة من الذين أدلوا بأصواتهم، مع نسبة مشاركة أقل من 75 في المائة، فيتعين عندئذ إجراء استفتاء جديد". غير أن كاميرون ورفاقه المؤيدين لبقاء بريطانيا لم يجدوا ذلك مناسبا لضرب ممارسة ديمقراطية تاريخية حقا. كما أنهم لا يريدون أن يدخلوا التاريخ كضاربين عرض الحائط برغبة الأغلبية (بصرف النظر عن حجم هذه الأغلبية) في الخروج من الاتحاد. الأمر انتهى، رغم أنه طرح تساؤلات جديدة خطيرة، في حين لم يقدم جوابا واحدا على أي سؤال ذي مغزى. لنترك الأزمات الاقتصادية التي برزت فور الإعلان عن نتائج الاستفتاء جانبا، وكذلك الأمر مع الإجراءات المالية الطارئة مثل تخفيف القيود على الاقتراض الشخصي، وخفض الضرائب على الشركات من 20 إلى 15 في المائة. إلى (طبعا) تهديدات اسكتلندا وإيرلندا الشمالية بالانفصال عن بريطانيا من أجل الاستمرار ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي. الخروج البريطاني طرح مجموعة مهمة ومحورية من الأسئلة، ولاسيما تلك التي تتعلق بمدى تغلغل القرار الأوروبي في المجتمعات المحلية لكل بلد عضو في الاتحاد. إلى جانب المفهوم العام لهذا الاتحاد. هل يراد له أن يكون دولة واحدة؟ أو فيدرالية لا تترك شيئا للحكومات الوطنية؟ وماذا عن الإصلاحات المطلوبة على ساحة الاتحاد نفسه؟ ألان جوبيه رئيس وزراء فرنسا الأسبق، والمرشح المحتمل لرئاسة البلاد طرح سلسلة من الأفكار المهمة بالفعل، تتعلق كلها بمسألة ما أسماه "إعادة التشكيل". وهذا يعني أن التشكيل الحالي للاتحاد الأوروبي لم يعد يتواءم مع المتغيرات الوطنية في بلدانه، خصوصا بعدما قفزت المطالبات في هذا البلد أو ذاك التي تدعو إلى استفتاء مشابه للاستفتاء البريطاني. والحق، أن "التشكيل الجديد" لم يعد ضروريا فحسب، بل يحتاج أيضا إلى أن يكون حاضرا على الساحة بأسرع وقت ممكن. ومما لا شك فيه، أن أي استفتاء يتم إجراؤه في أي بلد أوروبي آخر بما في ذلك فرنسا، لن يكون خطوة متسمة بالحكمة. لماذا؟ لأنك (في النظم الديمقراطية) لا تطرح مشروعا غير ناضج للاستفتاء الشعبي. عليك أن تقدم "الطبخة" ناضجة وقابلة للهضم. وما يطرحه جوبيه في الواقع هو استفتاء جديد على الساحة الأوروبية كلها، ولكن ليس قبل أن تجري إصلاحات وتحدد الأطر العامة الواضحة، بما في ذلك الحد من تدخلات المفوضية الأوروبية في خصوصيات أعضائها، وفي عمق مجتمعاتهم بصرف النظر عن كبرها أو صغرها. والمسألة لا تختص فقط بضرورة في مجال التجارة والضرائب واتفاقية "شنجن" التي تضمن حرية الحركة بلا قيود وغير ذلك. بل تتعلق أيضا بالحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي التي تتطلب مراقبة أوروبية كاملة مشتركة. دون أن ننسى، أن شرائح من أولئك الذين لا يعتقدون بأن الاتحاد الأوروبي كتلة ذات جدوى، انطلقوا من اعتقادهم هذا من زاوية المهاجرين واللاجئين. فإذا كانت هناك حماية أوروبية شاملة لحدود الاتحاد، الأمر سيختلف حتما، وسيخفف بالضرورة من مخاوف هذه الشريحة وغيرها. في الواقع، وفر الاستفتاء البريطاني الصادم خدمة مباشرة للاتحاد الأوروبي من خلال دفع القضايا المؤجلة أو التي تم تجاهلها طوال العقود الماضية إلى الواجهة. فهذا الاتحاد ليس فاشلا، ولن يكون، لكنه بحاجة إلى حراك بقوة الشباب، ومرونة حتمية. ألم تصوت أغلبية الشباب البريطانية لمصلحة بقاء بلادهم في الاتحاد؟ الذين ضربوا هؤلاء في الاستفتاء المذكور ليسوا إلا مجموعات من العجائز. وهؤلاء ليسوا حالمين لأن غالبيتهم العظمى مصابة بالزهايمر.
إنشرها