العالم

بين دول أوروبية صُنعت «وطنيتها» بالحديد والنار .. لا مكان للاتحاد

بين دول أوروبية صُنعت «وطنيتها» بالحديد والنار .. لا مكان للاتحاد

عند كل ميناء ترسو فيه سفينة الوحدة الأوروبية لإعادة ترتيب أحوال البيت الداخلي، بفرض مزيد من التقنين على ركابها؛ معاهدة الجماعة الأوروبية للفحم والصلب 1952، معاهدتا روما 1958، القانون الأوروبي الموحد 1987، معاهدة ماستريخت 1993، معاهدة أمستردام 1999، معاهدة نيس 2002، معاهدة لشبونة 2009. أو زيادة عنابر جديدة في سفينة الاتحاد؛ أي مؤسسات وهيئات تجعله أقرب إلى نظام دولة فيدرالية منه إلى اتحاد شكلي، الصندوق الأوروبي للتنمية الاقتصادية، انتخاب مباشر للبرلمان الأوروبي، مفوضة جديدة للاتحاد الأوروبي، إنشاء البنك المركزي الأوروبي.... أو فتح الباب أمام ركاب جدد للالتحاق بالعضوية في سفينة المجموعة، ست دول عند التأسيس وحاليا 27 دولة بعد انسحاب بريطانيا. عند كل محطة في مسار الوحدة الأوروبية الطويلة، يزداد غيظ التاج البريطاني الذي يخشى على أمجاد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من انصهارها في زمرة التطورات المتلاحقة على فكرة الاتحاد نحو تبني نظام دولة فيدرالية أملا في محو ذاكرة الحروب والاقتتال الأوروبي حتى الأمس القريب. تتعدد الآراء والقراءات منذ إعلان نتائج "استفتاء القرن" ليلة الخميس المنصرم، متأثرة بتسارع وتيرة الأحداث في عاصمة الضباب، ومعها مراكز اتخاذ القرار في القارة العجوز. لكن يبدو أن السياق التاريخي مهم لفهم ما يجري اليوم؛ فكما يقال الحاضر هو نتاج الماضي، والمستقبل هو نتاج حاضر يتشكَّل، واستعصاء فهم ما يجري ربما يُفهَم من خلال الغوص بالتاريخ. زواج "أبيض" من مكر التاريخ أن يكون رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل صاحب أول دعوة في 19 سبتمبر عام 1946؛ أي قبل 70 سنة خلت إلى كيان أشبه بـ"الولايات المتحدة الأوروبية". ومن مكره أيضا أن تكون بريطانيا اليوم أول دولة تُقرر الإبحار بمركب الدولة الوطنية القومية تحت بيرق بريطانيا، بعيدا عن علم الاتحاد الذي أسقطت منه نجمتها؛ بعدما تأكد لديها أن موقعها خارج المجموعة الأوروبية أحسن من البقاء مع الجماعة في الداخل، وأن خطاب الوحدة والانسجام والتكامل مجرد غطاء لتورية حسابات الربح والخسارة وبراجماتية العقل الغربي. يذكر التاريخ أن بريطانيا احتفظت دائما بمسافة فاصلة بينها وبين الاتحاد، فمنطق انضمامها إليه كان قائما على مشاطرة الوجود فقط وليس الوجود الكلي؛ فبريطانيا تضع رجْلا داخل الاتحاد وأخرى خارجه. فكما نعلم أن وجودها في المجموعة كان دون اعتمادها للعملة الأوروبية الموحدة اليورو حيث احتفظت بعملتها الوطنية من ناحية. وكانت رافضة، من ناحية أخرى، وعلى الدوام لاتفاقية شنجن ومنطقة الحدود المفتوحة. يتناسى كثيرون اليوم أن أول أزمة سياسية داخل الجماعة الأوروبية سنة 1963 كانت مع بريطانيا، عندما استعمل الجنرال ديجول الفيتو الأحادي الجانب والقومي ضد توسيع الجماعة لتشمل بريطانيا والدنمارك والنرويج وإيرلندا. ويتناسون كذلك بأن انضمام بريطانيا بمعية الدنمارك وإيرلندا إلى الجماعة كان بداية عام 1973، أعقبه استفتاء شعبي جرى عام 1975، صوت فيه البريطانيون بنسبة 67 في المائة لصالح قرار الانضمام. وذلك بفضل براعة هارولد ويلسون الذي خلف إدوارد هيث في رئاسة الوزراء سنة قبل ذلك، والذي تمكن من إقناع الرأي العام البريطاني، بأنه حصل من دول السوق على ما يكفي من التنازلات لحراسة المصالح البريطانية. ومع وصول المحافظين بزعامة المرأة الحديدية مارجريت تاتشر إلى السلطة سنة 1979، انفتحت جبهة توتر جديدة مع دول الاتحاد، حيث حاربت تاتشر من أجل "استرداد الأموال البريطانية" -كما جاء على لسانها- بعرقلة كثير من أعمال المجموعة إلى توصلت إلى اتفاق عام 1984 يقضي بتخفيض صافي مساهمة بريطانيا الكبيرة في ميزانية الجماعة. كانت روح معارضة مشاريع العملة الموحدة، والدفاع الأوروبي والإصلاح المؤسسي حاضرة باستمرار؛ وإن بدرجات متفاوتة داخل الحكومات المتعاقبة في عاصمة الضباب، فنظرة البريطانيين للوحدة كانت بنزعة ليبرالية شرسة ترى السوق الموحدة تدبيرا مهما من تدابير تحرير التجارة. ولا أدلّ على ذلك من كون دافيد كاميرون رئيس الوزراء المستقيل المدافع عن خيار البقاء في الاتحاد، من أوائل من تصدى لدعوة جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية في آذار مارس 2015 إلى إنشاء جيش أوروبي موحد للدفاع عن قيم الاتحاد، معلنا أن الدفاع مسؤولية وطنية ولا داعي لقيام جيش أوروبي. "نجم" ساقط وضع البريطانيون بقرار الانسحاب هذا بلدان المجموعة الأوروبية وجها لوجه أمام المرآة التي حرصت دائما على تلافي النظر إليها، نظرا لتباين درجات ما تكشفه من مآزق راهنة وحقيقة صادمة. فمغادرة بريطانيا صاحبة خامس اقتصاد عالمي، للمجموعة يرافقه مأزق مالي آني مرتبط بضرورة التدخل لتقويض خسارة المساهمة السنوية لهذا البلد التي تبلغ خمسة مليارات يورو، والتي يفترض أن يكون للألمان النصيب الأكبر في منها. ويفضح ثانيا مأزق السياسة الخارجية للاتحاد، التي طغى عليها اللا منطق بعد توالي قضايا الأزمة المالية، الربيع العربي، الملف الأمني، مسألة اللاجئين...، إذ بدت الشروخ واضحة في هذه السياسة تجاه عديد من القضايا، حيث بتنا نسمع مواقف بعض هذه الدول فرادى على طرفي نقيض الموقف الرسمي للسياسة الخارجية للاتحاد. ويكشف ثالثا أزمة الثقة في حلم الوحدة، فمما لا شك فيه أن هذا القرار لن يمر دون أن يجد صدى في بعض الدول التي يتزايد فيها مؤيدو الخروج من الاتحاد مع تصاعد موجات اليمين المتطرف فيها، كالدنمارك التي رفضت بغالبية كبيرة في استفتاء شعبي أواخر العام الماضي تسليم مزيد من السلطة للاتحاد، والسويد التي تنظر إلى نفسها بلا حول ولا قوة داخل المجموعة الأوروبية في غياب المملكة المتحدة، واليونان وهولندا والمجر... ويعيد في الداخل البريطاني إلى واجهة النقاش، وبمشروعية أكبر هذه المرة، وربما بدعم من دول الاتحاد دون شك، مسألة انفصال بعض الدول كاسكتلندا، إيرلندا الشمالية، ويلز... عن مظلة التاج البريطاني التي يتزايد مدها تباعا، ففي آخر استفتاء نظم السنة قبل الماضية سلمت الجرّة بفارق ضيئل جدا 55.42 مقابل 44.58. تبقى الحقيقة الساطعة -من واقعة الخميس الماضي- التي عمل الأوروبيون باستمرار على طمسها، بالبحث عن مدان مفترض بديلا عن الاعتراف بها. إنها إشكالية الهوية الأوروبية "المشتركة"، فالإنجليزي طال الزمن أو قصر لن يقبل أن يتشارك ذات يوم مع الجرماني الهوية نفسها، وقس على ذلك الفرنسي وغيره من القوميات التي صنعت فيها الدولة الوطنية بالحديد والنار.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم