العالم

«خير مطلق أو شر مطلق» .. «أحادية» لا يحتمل الشاب المتطرف سواها

«خير مطلق أو شر مطلق» .. «أحادية» لا يحتمل الشاب المتطرف سواها

لماذا يتحول الأطفال الطيبون إلى إرهابيين؟ هذا السؤال الصعب وضعته "أليس لوسوسير" عنوانا لكتابها الذي يلقي الضوء على العوامل النفسية التي تسهم في تحويل أشخاص مسالمين في محيطنا الاجتماعي إلى إرهابيين. "لوسوسير" التي تعمل كأستاذ علم النفس المساعد بجامعة ليزلي واستشاري علم النفس في مركز بوسطن الطبي تحاول الإجابة عليه. اعتمدت في هذا الكتاب على مجموعة من المقابلات مع عدد من أفراد المجتمع المحيطين بالإرهابيين، وقامت بالتركيز بشكل خاص على منفذي تفجير بوسطن عام 2013. وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب في أواخر عام 2014، وأعيد تنقيحه وتمت إضافة عدة فصول في الطبعة الثانية 2015. تناقضات اجتماعية على النقيض من الصورة النمطية الشائعة عن الإرهابي بأنه شخص بدائي منغلق ومتطرف، كثيرا ما يكون الإرهابي شخصًا اجتماعيًّا ليس لديه تاريخ سابق من العنف، ولهذا يكون رد فعل المجتمع المحيط به في كثير من الأحيان الاستنكار وعدم التصديق، بل وادعاء وجود خطأ أو مؤامرة أدت إلى اتهامه وفقا لقراءة منى مصطفى الباحثة في المركز القومي للدراسات. في هذا السياق، قامت مؤلفة الكتاب بتتبع تاريخ مجموعة من الإرهابيين، وإجراء مقابلات مع عائلاتهم وأصدقائهم ومعلميهم، مع تتبع مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. فعلى سبيل المثال، تتبعت حالة منفذي تفجيرات بوسطن في الولايات المتحدة التي حدثت في عام 2013، وقد قام بتنفيذ هذه التفجيرات كلٌّ من جوهر تسارنايف (19 عامًا)، وتامرلان تسارنايف (26 عامًا). واستندت معظمُ التحليلات في ذلك الوقت إلى تفسير سلوكهما العنيف بتلك المقولات التقليدية المتعلقة بصعوبة إدماج المهاجرين بالنظر إلى أصولهما الشيشانية، بيد أنه بعد إجراء عديد من المقابلات تم التوصل إلى أن الأخوين "تسارنايف" كانا شخصين لديهما عديد من الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية الجيدة. كما كان "جوهر تسارنايف" كابتن فريق المصارعة بمدرسته الإعدادية والثانوية، ومنخرطًا في إحدى الهيئات الطلابية، ويتذكر أحد معلميه أنه قام بكتابة أحد الموضوعات وهو في المرحلة الابتدائية عن امتنانه لكونه يعيش بأمان وسلام في الولايات المتحدة الأمريكية، وبمراجعة تقاريره المدرسية أشار أحد التقارير إلى كونه "يحمل قلبًا من ذهب"، وكانت درجاته مرتفعة، إضافة إلى التزامه الشديد بتسليم تكليفاته المدرسية قبل مواعيدها المحددة. كذلك كان الحال بالنسبة لأخيه تامرلان الذي كان يُعرف عنه أنه شخصية اجتماعية وقوية ورياضية، وقد ذكر مدربه الرياضي أنه كان شخصية شجاعة، لا يلجأ أثناء ممارسته الملاكمة إلى الأساليب الدفاعية على غرار إخفاء الوجه والحماية الزائدة، وكان يميل للموسيقى الكلاسيكية، ويجيد العزف على البيانو، وقام بالمشاركة في عديد من المسابقات الموسيقية. وعمل تامرلان في توصيل الطلبات بعد المدرسة، وقد قال في مقابلة مع صحيفة "ويل صن" نصًّا: "أحب الولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا لأنها تُتيح عديدا من فرص العمل على النقيض من روسيا، يكفي أن يكون لديك استعداد للعمل، وعندها تستطيع جني كثير من المال"، وتشير تقاريره المدرسية إلى كونه طالبًا مرحًا ومحبوبًا. وكان تامرلان يُخطط لدراسة الهندسة، وذكر أيضًا أنه عقب دراسة الهندسة سيقوم بدراسة القانون، وقام بالدراسة في كلية بانكر هيل من خريف 2006 إلى خريف 2008. وعلى الصعيد العائلي كانت عائلته منخرطةً في محيطها الاجتماعي وعلى علاقة جيدة بالجيران، وربما هذا هو ما أدى إلى رفض أصدقائهما تصديق أنهما قاما بالعمل الإرهابي، وقام بعض أصدقائهما بإنشاء موقع إلكتروني يجمعان فيه أدلة تؤكد أن الأخوين "تسارنايف" لم يقوما بهذا الهجوم. وفي سياق مختلف، وبالتحديد في تونس، كان الإرهابي أيمن السعدي الذي كان يبلغ من العمر 18 عامًا وقت محاولته تفجير روضة آل بورقيبة في أكتوبر 2013 يتم الإشارة إليه هو الآخر بوصفه شخصًا محبوبًا وهادئًا، وكان طالبًا متفوقًا، وتشير والدته إلى أنه كان حلم أي أم أو أب، وكان يجيد التحدث باللغة الإنجليزية والألمانية، ويسعى لتعلم مزيد من اللغات، وفجأة حدث التحول ليطالِب بالسفر إلى سورية للجهاد، وبعد أن قامت قوات الأمن بإجباره على العودة قام بمحاولة تنفيذ هذا التفجير الإرهابي. عوامل نفسية رغم أن تحول شخص من مسالم إلى إرهابي يرجع إلى مجموعة متداخلة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، إلا أن الكتاب ركز أكثر على العوامل النفسية ومن أبرزها: 1- غياب الدعم الأسري: حيث قام عالم النفس لورانس شتاينبرج بدراسة حالات مجموعة من المراهقين الذين تورطوا في عمليات إجرامية أو أعمال عنف، ووجد أنه في أغلب هذه الحالات كان الأبوان دائمي الانشغال، أو يميلان إلى ترك أولادهما لتحمل المسؤولية كاملة حتى النهاية، وفي حالة الأخوين "تسارنايف" كان الأبوان دائمي الانشغال بالإخوة الأصغر سنًّا، ظنًّا منهما أن جوهر وتامرلان قد أصبح بإمكانهما الاعتماد الكامل على النفس. وتُشير تقارير مدرب المصارعة الخاصة بجوهر إلى أنه لم يكن هناك أحد من أفراد أسرته يقوم بحضور التدريبات أو البطولات، وبالطبع لا يؤدي غياب الدعم الأسري في كل الحالات إلى تحول الأبناء إلى إرهابيين. 2- التبرير القيمي: عادةً ما تكون الممارسات العنيفة التي يقوم بها الإرهابي الذي كان مسالمًا في السابق متناقضةً مع قيمه المتأصلة بداخله، ويُشير علم النفس إلى أن الشخص في هذه الحالة يقوم بما يُشبه إيقاف منظومته القيمية، مع الادعاء بأنه يتصرف بطريقة شخصية.، فالإرهابي يتجاهل كل القيم التي تمنعه عن القتل، مركزًا على قيمة طاعة واحترام الأكبر سنًّا الذي قام بإعطائه أمر التنفيذ. ويُشير عالم النفس الإيراني "فضل الله المقدم" إلى مجموعة من الخطوات يعتمد عليها الشخص من أجل التبرير القيمي؛ ففي البداية يكون الشخص مدركًا خطورةَ ما يفعله، ويزداد الضغط النفسي عليه، وعندها يبدأ بتحويل المسؤولية إلى كيان خارجي، ثم يبرر لنفسه بأن الوسيلة للوصول إلى المجتمع الأمثل هو استخدام العنف والأساليب الراديكالية، وأنه مضطر لهذه الأساليب وليس باختياره، مع الانتماء إلى هوية جماعية يستطيع من خلالها تصنيف جماعته على أنهم الخير المطلق، وما سواهم هم الأعداء، ويؤدي كل هذا إلى الاعتقاد بأن التضحية بالنفس هي عمل بطولي. 3- أحادية الرؤية: يميل الأشخاص في سن المراهقة أو بداية الشباب إلى تصنيف الأفعال على أنها خطأ أو صواب، أو أن الشخص طيب أو شرير، ولا يستطيع استيعاب المواقف المعقدة، على غرار أن الشخص قد يقوم بارتكاب خطأ ضخم، وفي الوقت نفسه يقوم بأفعال جيدة، وهو ما أكدته نظرية وليام بيري الأستاذ في جامعة هارفارد الذي قام باختبار طرق التعلم لدى مجموعة من تلاميذه، فوجدوا أنهم في البداية يميلون إلى إدراك الأمور بطريقة صواب أو خطأ، ثم يحتاجون إلى وقت طويل كي ينتقلوا إلى فهم التعقيدات، وأن الفعل الصحيح قد ينطوي على خطأ ما. وتشير مجموعة دارسات في هذا الشأن حول المراهقين إلى أن سن الـ15 عاما قد يميل إلى فكرة أحادية الرؤية، بما يجعله أكثر عرضه للاستقطاب من قبل الجماعات الإرهابية. 4- التغيير المفاجئ: عندما يمر الفرد بتغيير مفاجئ تحدث فجوة ما بين حياته قبل التغيير وحياته بعد التغيير، ويحاول العقل سد هذه الفجوة بكل السبل، وقد يبدو الشخص طبيعيًّا ويتفاعل مع مجتمعه وأصدقائه، بيد أنه تظل بداخله حالة من عدم التأقلم والرفض والسخط. وفي حالة الأخوين "تسارنايف" فإن تامرلان (الأخ الأكبر) انتقلت أسرته من الشيشان بشكل مفاجئ ليلا دون أن يتم إخباره، واستيقظ ليجد نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يستطع فهم أين ذهب أصدقاؤه أو مجتمعه القديم، وعلى الرغم من أن تساؤلاته قد اختفت بعد أيام قليلة من وصوله، إلا أنه يبدو أن هذا الموقف قد أثر فيه، وجعله يميل لأن يكون أكثر راديكالية. هل يُمكن إنهاء الإرهاب؟ يُشير الكتاب إلى أن النظريات التقليدية كانت تفترض أن الإنسان بطبيعته يميل للعنف، بيد أن النظريات الحديثة توصلت إلى أن الإنسان بطبعه يميل إلى العنف وعدم العنف في الوقت نفسه. ففي تجربة أعدها 16 عالمًا متخصصًا في علم النفس في ثمانينيات القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية، واستمرت عدة سنوات؛ تم التوصل في نهايتها إلى أن العنف ليس مرتبطًا بجينات الإنسان، وأن المقولة التي تؤكد أن العنف يؤدي إلى إيجاد مزيد من العنف Violence breeds violence ليست صحيحة تمامًا، فالإنسان يتحكم في الظروف بدرجة أكبر مما يمكن تخيلها ويستطيع تخطيها. كما أثبتت التجربة أن ميل الإنسان إلى العنف لا ينبع من دافع واحد؛ بل مجموعة من الدوافع. ومن أجل التوصل إلى الأسلوب الذي يُمكن من خلاله إنهاء الإرهاب قام عالما الاجتماع آلان كروجر وجيتكا مالكوفا بإجراء تجربةٍ تم التوصل من خلالها إلى أن شعور الأفراد بانتهاك حقوقهم الأساسية، والشعور الدائم بالإهانة؛ هو العامل الأكثر تأثيرًا فيما يتعلق بالانخراط في الإرهاب، مقارنة بعاملي الفقر وقلة التعليم. ووفقًا لهما، يجب التركيز على تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع لكي يتم القضاء على الإرهاب. كذلك قام عالما الاجتماع مارتن ديلي ومارجو ويلسون بتتبع مجموعة من حالات العنف في عقود مختلفة، وتوصلا إلى أن الظلم الاجتماعي هو السبب الرئيس الذي يؤدي إلى معظم الحوادث الإرهابية. وفي السياق ذاته، أشارا إلى أن عمليات التطور والتحديث المجتمعي عادةً ما تقود إلى تقليل حدة العنف، وهو ما أكده عالم الاجتماع مايكل كومنز من أن تطور المجتمعات يشبه تطور الأفراد، وعادةً ما يقود إلى الاستقرار، وتقليل حدة العنف، على أن تحدث عملية التطوير والتحديث بشكل تدريجي، وألا يتم تخطي بعض المراحل، كما يجب أن تشمل كل أفراد المجتمع. وإجمالا، يؤكد الكتاب وفقا للباحثة منى مصطفى أن الشخص المسالِم لا يتحول إلى إرهابي بشكل مفاجئ؛ بل تحدث له تغيرات بشكل تدريجي، بيد أن مجتمعه المحيط قد لا يُلاحظها أو يميل إلى تكذيبها، كما يؤيد الكتاب أن غياب العدالة الاجتماعية وعمليات التحديث المجتمعي العشوائية من أهم المحفزات التي تُساعد في إيجاد البيئة الملائمة لصعود الإرهابيين.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم