ثقافة وفنون

«المهدي المنجرة».. المحاصر حيا وميتا

«المهدي المنجرة».. المحاصر حيا وميتا

«المهدي المنجرة».. المحاصر حيا وميتا

منتصف الشهر الجاري حلت الذكرى الثانية لرحيل البروفيسور والأكاديمي وعالم المستقبليات المغربي الدكتور المهدي المنجرة (1933_2014)، وقد خلّد تلامذته وأصدقاء ومحبو هذه القامة الفكرية الكبيرة سنا وعلما -الذائعة الصيت عربيا وإسلاميا وعالميا، هذه المناسبة باستعادة أفكار ومواقف الرجل الخالدة تجاه قضايا بلده المغرب ووطنه العربي والإسلامي وانتمائه الإنساني، والتأكيد في الوقت ذاته على وجوب الحرص وبكل الوسائل على استمرارية انتشار آراء وأفكار هذا المثقف العضوي والمناضل الذي عانى ويلات المنع والحصار لعقود من الزمن. المهدي المنجرة رجل ائتمنه التاريخ على مستقبل أمته، لطهارة يمينه وصفاء روحه وعميق نظرته وغزير عمله، إنه المناضل الذي لم تخب حماسته النضالية رغم مواجع الحصار والمنع الدائمين، فقد ظل نداؤه يرن في مسامع الأجيال، نداء عميق في قلب الاضطهاد والمنع... نداء الحرية والكرامة. #2# ويقول آخر إن الراحل كان وبحق واحدا من أبرز المفكرين الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية في العصر الحديث، نظرا لدفاعه المستميت عن القيم الإنسانية، ومساندته المقهورين في كل أنحاء العالم، وتبنيه القضايا الفكرية والسياسية المناهضة للعنف والإقصاء والتجبر وتسخير البشر من أجل المصلحة الشخصية. مسيرة الرجل المعرفية والنضالية تنأى عن تقديمها كتب، فكيف بأوراق أو شهادات مناسباتية، فعمليا خبِر الراحل دهاليز المنظمات الدولية والهيئات الأممية، حيث كانت له مهام في هيئة الأمم المتحدة وفي منظمة اليونسكو وفي عديد من الهيئات الإقليمية. كما كان له باع طويل في مهنة التدريس بكبريات الجامعات العالمية (كيوتو، لندن، باريس...). وسجل حضورا لافتا في الهيئات والمنظمات الدولية في مجال المستقبليات، حيث ترأس لسنين "الفيدرالية العالمية للدراسات المستقبلية" وأسهم في تأسيس "الجمعية الدولية للمستقبليات"، وكان عضوا في "المجلس التنفيذي للجمعية العالمية للتنمية". وحظي كذلك بعضوية عديد من الأكاديميات (العالمية للفنون والعلوم، الإفريقية للعلوم، الأوروبية للعلوم والفنون والآداب،...). ومعرفيا كان لمؤلفات المهدي المنجرة التي تُرجمت إلى أزيد من 20 لغة عالمية وقعٌ كبير على المتلقي، كيفما كانت ثقافته بالنظر إلى إنسانية الخطاب وشمولية الرؤية وصفاء الأفكار التي يطرحها الراحل في أعماله العديدة، والتي لم تحد يوما عن أطروحته الكبرى القائمة على جعل المعرفة في خدمة التنمية للرقي بالإنسان. ومن أبرز مؤلفاته: "نظام الأمم المتحدة" (1973)، "من المهد إلى اللحد" (1981)، "الحرب الحضارية الأولى" (1991)، "حوار التواصل" (1996)، "عولمة العولمة" (1999) و"انتفاضات في زمن الذلقراطية" (2002)، "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية" (2004)، وآخرها كتاب "قيمة القيم" (2007). نُذكر أن أستاذنا، وبحكم تخصصه في المستقبليات، كان سباقا إلى الحديث عن «حوار الحضارات» بدلا من «صدام الحضارات» الذي اشتهر به المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون. وتوقع كذلك انتهاء الهيمنة الغربية على بلدان العالم العربي، وهو ما تشهد بعضا من بوارده حاليا بعض الدول العربية لمواقف جريئة في مواجهة الدول الغربية. وكان من زمرة القلائل الذين تنبأوا بسقوط بعض الأنظمة العربية، وبقيام انتفاضات شعبية في بلدان العالم العربي قبل عقدين من الزمن من حدوث "الربيع العربي" عام 2011. إذ يقول في كتابه «الإهانة في عهد الميغا إمبريالية»: "الإهانة لا يمكن أن يقبلها شعب لفترة طويلة، والدفاع عن الكرامة لا يمكن إلا أن يثير ردود فعل قد تكون عنيفة في طبيعتها. وستندلع «انتفاضات» جديدة في كل الوطن العربي الاسلامي مخلفة ثمنا اجتماعيا وإنسانيا كبيرا". ناضل الراحل المهموم بقضايا وطنه العربي وأمته الإسلامية وكل المستضعفين في الأرض من قبل قوى الاستكبار العالمي، وكان الناطق باسمهم وحامل قضاياهم في المحافل والمنتديات الدولية. ناضل بفكره ضد الهيئات الدولية، وهو المطلع عن كثب عليها والعارف بمواقفها الحقيقية، وانتقدها في كتاباته ومحاضراتها، ولاحقا قاطعت أنشطتها ضدا على سياسات التمييزية. وانخرط بكل جوارحه في قضايا العرب والمسلمين باحثا لهم عن سبل تحقيق نهضة شاملة؛ وهم أصحاب قواسم مشتركة ومحفزات أكثر مما لديها غيرهم من الأمم (اللغة، الدين، التاريخ، المصير المشترك...)، أملا منه في بلوغهم موقع الندية والتنافس في مواجهة قوى الغرب، مستلهما في أطروحته روح التجربة اليابانية ومسارها النهضوي الفريد. لا مدخل لتحقيق ذلك من وجهة نظر الراحل سوى التعليم، التي يعتبره معركة مصيرية في العالم العربي أو لنقل دول الجنوب بصفة عامة بتعبيره (كان يمنح جائزة سنويا حول التواصل الثقافي شمال-جنوب)، إذ يربطه بمشمولات أخرى منها الثقافة والتقنية والقيم، وهنا يقودنا الرجل إلى أطروحته المركبة حيث يقيم تمييزا جوهريا بين نطاقات طالما تم المزج بينها، وهي: المعرفة والخبرة والتكنوقراطية... وتوضيحا لهذا المأزق في كتابه «قيمة القيم» يقول: "التقنية ابنة العلم؛ لكن القطاع الواسع من الناس لا يدرك العلم إلا من خلال التقنية". لم يكن للرجل انتماء لليسار في حياته ولا حتى اليمين فهو أبعد ما يكون عن العمل السياسي الحزبي، لكنه تصدى لقضايا غطرسة العولمة أكثر مما فعل أشهر اليساريين ممن يرون مواجهة الإمبريالية العالمية على رأس أولويات أجندتهم النضالية. يقول الراحل في مقدمة آخر أعماله "قيمة القيم" قبل أن يقعده المرض العضال: "لا يمكن أبدا استنساخ الثقافات. إنها تستطيع أن تتواصل وتغني بعضها البعض في إطار احترام متبادل لمختلف أنماط الحياة، غير أن عولمة منظومة القيم من طرف القوة العسكرية العظمى في العالم يعرض هذه الفرصة لخطر داهم. لقد بدأت تنبعث، من جديد، في العالم الثالث نزعة مقاومة لكل أشكال العدوان الثقافي الذي يمارسه كثير من الدول الغربية". إنها إحدى تنبؤات المنجرة بما يعيشه عالمنها اليوم من نزوع منقطع النظير نحو التطرف وعلى كل الأصعدة، إننا نعيش ما قال عنه ذات يوم: "حرب قيم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون