ثقافة وفنون

الحوار .. ذروة مجازفة لا نشعر بها إلا بعد أن نتورط في أتونها

الحوار .. ذروة مجازفة لا نشعر بها إلا بعد أن نتورط في أتونها

الحوار .. ذروة مجازفة لا نشعر بها إلا بعد أن نتورط في أتونها

هناك كتب تبرع في أن تقلك إلى عوالم أخرى تجسد لك ما يظهر وكأنه واقع معيش. لا يتخيل ذلك من يقتني كتابا يحوي في أعماقه عددا من الحوارات مع نخبة من المثقفين، يتوقع أن يغرق في أفكارهم وآرائهم الشخصية، إما أن يعيش واقع وقصص "ما وراء الكواليس"، بدءا من عملية البحث عن تلك الشخصية وإما التصادف معه، فذلك ما يعزز من القدرة على لفت الانتباه، كما يلاحظ أثناء قراءة كتاب "الحقيبة الجلدية .. بصحبة مفكرين وأدباء وفنانين" للصحافي وكاتب السيناريو السعودي علي سعيد، عن دار أثر للنشر لعام 2016. يأتي العمل في قالب يختلف عن الطريقة التي تم فيها نشر ذات الحوارات في الصحف المعتمد على الأسلوب التقليدي للأسئلة. الحوار الذي وصفه علي في تمهيد الكتاب بأنه "تحد محفوف بالمخاطر.." وبأنه أشبه بـ "ذروة المجازفة التي لا تشعر بها إلا بعد أن تتورط في أتونها." ذلك الحوار جاء في قالب مختلف يظهر فيه علي سعيد بصيغة المؤلف/ الراوي/ البطل المحرك للأحداث. أو كما ذكر الناشر يعيد من خلاله "الحوار إلى الجزء الحكائي بوصفه جزءا لا ينفصل عن البناء الأشمل، القصة." بأسلوب يجمع ما بين التشويق والقدرة على الاسترسال في السرد، والاستفادة من المواقف والصدف الغريبة للاستشهاد بها أو حتى ذكرها كمقدمة للحكاية. إجابات سردية برع علي سعيد من خلال حقيبته الجلدية في التوصل إلى ما هو أشبه بإجابة سردية عن تساؤلات القارئ وفضول، ومحاولة استشفاف الحدث وإظهار ما يستتر وراء كواليس الحوارات، والكشف عن الطريقة التي التقى فيها 13 شخصا ممن حاورهم سواء كان مفكرا أو أديبا أو حتى نحاتا. تعلو أسماء كأدونيس وألبيرتو مانغويل وأحلام مستغانمي ونصر حامد أبوزيد وأميمة خليل وتتلاقى مع أسماء أخرى من أجل التوصل إلى محاولة لوعي أعمق لوضع المثقف في العالم العربي بشكل عام، وتشير تلك الأحاديث والقصص إلى مواقف تحيل عددا كبيرا منهم إلى أصدقاء مقربين للراوي أو الكاتب أو الصحافي ها هنا، حسب القالب الذي يتصوره القارئ أثناء تتبعه الأحداث. سر الحقيبة هناك مقتنيات ترتبط في لا وعينا بتجربة عمرية أو مرحلة حياتية لا نستطيع الانفصال عنها، والحقيبة الجلدية لعلي ارتبطت برحلته الاستكشافية وحواراته خلال عشر سنوات، أو ما يزيد على ذلك، مما دفعه إلى اختيار "الحقيبة الجلدية" عنوانا للكتاب. يصف علي حقيبته بأنها "مستودع الحكايات وهي تحتضن أصوات من كانوا ومن رحلوا." أمثال حامد أبو زيد وخيري شلبي وباسم حمد. إذ تحوي أشرطة تسجيل تحمل أصواتهم وحواراتهم. انسيابية المكان والزمان يبدو من الصعب تحديد المدة الزمنية التي أجريت فيها اللقاءات، إذ قد يعود بعضها إلى بدء عمل علي سعيد الصحافي مراسلا ثقافيا في دمشق عام 2003، عقب تخرجه من قسم الصحافة بجامعة دمشق، وتمتد الفترة الزمنية إلى زمن قريب. أما المكان فيتفاوت وإن كان غالبا على هامش احتفال ثقافي سواء في الشارقة والظهران والبحرين ودمشق والكويت. تحتل المقاهي حيزا من الخيارات لإجراء الحوار، ويرتبط المكان ووصف أجواءه بالتجربة التي تكشف عما يستتر خلف الكواليس، ويعزز من حضورها مواقف طريفة تزيد من سحر الأجواء السردية لمن امتهن محاورة الآخرين فعاش التجربة، كالذهاب إلى المقهى الخطأ كما حدث أثناء التقائه بالشاعر البحريني قاسم حداد، أو عدم معرفته مكان فعاليات إعلان الفائز بجائزة البوكر، أو حتى انتظار أحد المثقفين وتخيل مونولوج داخلي مفتعل. #2# هوس القراءة تتجلى من خلال الحوارات معاناة المثقف والسعي نحو اقتناء الكتب بغض النظر عن شح المادة أو صعوبة الحصول على هذه الكتب من جهة، ومن جهة أخرى تظهر نشوة القراءة والحصول على الكتاب، كمكتبة منزل ألبيرتو مانغويل التي تحوي أكثر من 40 ألف كتاب، إضافة إلى مكتبة المؤرخ السوري سهيل زكار التي تحوي أكثر من 35 ألف كتاب. وصف علي انبهاره بمكتبة زكار: "الكتب تحتل البيت وتزحف حقا، هل أنا في منجم كتب أم ماذا؟". هناك أيضا تطرق لطرق القراءة بل إعادة القراءة، كما يذكر مانغويل بأنه يفضل إعادة قراءة كتاب لعشرين مرة. السيجارة والهم الثقافي يصف علي سعيد الهم الدائم للمثقف وكأن: "ثمة ما يشبه الحبل السري الممتد حول عنق المثقف، كان دائما ما يخنقه، يهزه يفككه ويكشف ألاعيبه." تظهر طقوس التدخين ممتزجة مع القلق والهم الثقافي في أكثر من قصة ومع أكثر من شخصية في الكتاب. تترسخ في الذاكرة صورة أدونيس، كما في الوصف، وهو يسحب نفسا من سيجارته الكوبية ويناقش أزمة الهوية والتباسها في العالم العربي. الذي وصف الرحلة مع الشعر "لكنها لا تكتمل". بطولة المواقف تكتسح مواقف من يتم التحاور معهم بطولة الكتاب، كتأخره على رحلته لأجل إجراء حوار مع الممثل السوري غسان مسعود، في مشهد درامي ممتع وكأنه جزء من أدوار غسان إلا أنها للراوي نفسه وهو يضطر الإسراع نحو بوابة المطار. ومحاورته النحات العراقي باسم حمد الهائم الذي يحمل على عاتقه هم بغداد والجثث الفنية التي تحطمت في المتاحف. يسأل علي أين سينشر حديثه فيجيبه بأنه لا يعلم إذ هو شبه عاطل عن العمل، فلم يظهر إلا ترحيبا به. وفي رحلة تشويقية، يصف علي سعيد مصادفة تعرفه على نتيجة فوز رواية "فرانكشتاين في بغداد" للروائي العراقي أحمد السعداوي بجائزة البوكر لعام 2014، وأسلوبه المشاكس الذي يكشف فيه عن معرفته بالنتيجة وإعلامه الفائز وأعضاء اللجنة ليتقاطع ذلك مع التجربة الكتابية للسعداوي الذي تعب في حياته وامتهن في حقبة منها أعمال البناء، التي تعكس عدم وجود ظروف مثالية عاشها أي أديب حول العالم. من خلال كل ذلك تسفر النقاشات عن محاور مهمة تتفاوت ما بين مواضيع جدلية وأخرى عاطفية أو خاصة تكشف عن تجربة ثقافية مختلفة. لزوم الخبرة هناك آراء تتلاقى وإن كانت في مجالات أدبية تختلف كما يلحظ من يقرأ كلا من الحوار مع الروائي المصري خيري شلبي والشاعر البحريني قاسم حداد. فشلبي الذي ذكر علي سعيد بأسلوب فكاهي عدم تعرفه على قامته الأدبية إلا متأخرا أو ما هو بمنزلة خطوط عريضة، دعا الروائي لعدم الاستعجال في إصدار كتاب قبل أن يستوفي العمل حقه. الأمر الذي يتفق معه فيه حداد، وإن كان في مجال الشعر. "ما يحدث الآن هو أن الأشخاص يبدؤون النشر منذ محاولاتهم الأولى." في الحين الذي يحتاج فيه أن يكون متأكدا من نفسه أولا و"بأن لديه موهبة شعرية موجودة والقارئ أيضا يتيقن من ذلك". سيدة العتمة على الرغم من صعوبة الوصول إلى الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، هي التي تسمي نفسها "سيدة العتمة" وتمتنع عن إجراء الحوارات. تظهر فيما بعد شخصيتها القائمة على محاولة نشر الحب والتفاؤل وهي تصف: "من الحماقة أن نبكي خسارتنا العاطفية، قد تفيد الأدب ولكن لا تفيد في الحياة". خوض مغامرة الرواية تظهر تجربة علي بدر في خوضه مغامرة الرواية، وقدرته على تفكيك أعماله في حواراته ومناقشة تقنيات الكتابة وبناء الشخصيات وعلى الرغم من إبداعه تحليل كل ذلك يتساءل:"صحيح أننا لا نعرف لماذا تصبح بعض الروايات مهمة جدا، أو لماذا هذه الرواية دون تلك تأخذ مساحة كبيرة من اهتمام القراء". فيما تغذي الحوارات مع مفكرين مخضرمين شغف التعرف على قضايا تأزم الواقع العربي، كقلق المفكر والأكاديمي المصري نصر حامد أبوزيد، حيال أزمة التحدث بلغة الماضي والتواصل بلغة الحاضر، والابتعاد عن تنمية ثقافة النقد، والتداخل بين قيم الثقافة التقليدية مع قيم الدين. فيما يتقاطع ذلك مع تشاؤم المفكر والمؤرخ الجزائري محمد أركون فيما يخص وجود قوة استلابية للعقل العربي، وهذا الاستلال بلغ درجة المرض الاجتماعي. الفن غناء وسينما فيما يتعانق الفن غنائيا وسينمائيا ليعمل بالتأثير في الوجدان. يتجلى ذلك في رحلة مع بوح جميل للمغنية اللبنانية أميمة خليل وهي امرأة حالمة أبدعت التجربة الغنائية منذ طفولتها، شاركت مارسيل خليفة رحلته في فرقة الميادين قبل استقلالها، وحكت لعلي قصة ارتباطها بزوجها في لقاء جاء مصادفة. بينما يأتي الممثل السوري غسان مسعود الذي قام بدور متميز لصلاح الدين الأيوبي في الفيلم الهوليوودي "مملكة السماء"، وفي مسلسلات بدوية كـ"فنجان الدم". بعباراته الحازمة المختصرة كدحضه من يتهم الأعمال التاريخية كحالة مرضية من النوستالجيا: "ويا سيدي نوستالجيا، أو ليس الفن لعبا بالخيال والذاكرة والوجدان والأحلام وجوهر الفن قائم على الحكايات".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون