العالم

الأزمة السياسية التركية: نهاية لصراع «المثقف» و«السلطان» أم البداية؟

الأزمة السياسية التركية: نهاية لصراع «المثقف» و«السلطان» أم البداية؟

يضع انتخاب بن علي يلدرليم وزير المواصلات والاتصالات والنقل البحري، رئيسا جديدا لحزب العدالة والتنمية التركي، حدا لصراع سياسي وثقافي طال في الخفاء والعلن بين رئيس الحزب السابق أحمد أوغلو، ورئيس الدولة رجب طيب أردوغان. فالعلاقة بين المثقف والسلطان، عبر التاريخ، جيدة سوى في محطات نادرة؛ فحسابات المناضل في بيدر السياسة لا تتوافق عادة مع رؤية المفكر لمنهج الحصاد. هكذا أجدني أجيب صديقا عن سؤاله "ماذا يجري في كواليس المطبخ السياسي التركي طوال هذا الشهر"؟ والمؤتمر الأخير لأحمد داود أوغلو يضع حداً لمرحلة طويلة حافلة خط فيها الرجل السياسة الخارجية التركية، وفق نظريته "العمق الاستراتيجي"، ثم بعدها رئاسة الحزب والحكومة التي أمضى في سدتها سنتين إلا أربعة أشهر. لا تبدو هذه النهاية مفاجئة للمهتمين بهذه التجربة، وإن كانت مباغتة في توقيتها، بالنظر إلى عناصر مرتبطة بشخصية الرجلين؛ فأردوغان زعيم الحزب والقائد المؤسس والسياسي الطموح صاحب الكاريزما، وأوغلو المنظر السياسي والمفكر الاستراتيجي والأستاذ الأكاديمي عظيم الثقة بالنفس. وأخرى تتصل بطبيعة النظام التركي الهجين، فهو نظام برلماني دستوريا وواقعيا أقرب إلى النمط الرئاسي بعد آخر انتخابات رئاسية، ما أوجد تداخلا في الاختصاصات والسلط والصلاحيات. سفينة يقودها ربانان ما إن تسلم أوغلو رئاسة الحكومة والحزب خلفا لأردوغان الذي انتخب رئيسا للجمهورية في آب (أغسطس) 2014، حتى توالت الأحاديث همسا عن تباين المواقف بينهما حيال عديد من القضايا – داخليا وخارجيا -، زد على ذلك ارتفاع منسوب التوتر داخل أجهزة الحزب. دخل الفيلسوف لعبة سياسية مرهقة، فشخصيته الهادئة لم تتأقلم مع غابة السياسة، فبعد سنواته الطويلة في الكتابة والتنظير وجد نفسه في السلطة لتجربة أفكاره. عمل بداية مستشارا لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، قبل تعيينه وزيرًا للخارجية في 2009 حتى 2014، وقتها قرر الحزب أن يُوَليه قيادته ومعها رئاسة الحكومة. لكن الرجل وجد نفسه في مواجهة نفوذ صديقه القديم؛ رئيس الجمهورية الجديد الذي - بموجب الدستور -، يفترض فيه أن يكون على ذات المسافة من كافة الأحزاب التركية. تعود جذور الخلاف بين "الرئيس" و"الأستاذ" إلى مشكلة دستورية بنيوية "دستور 1982"، تعطي رئيس الجمهورية صلاحيات تتقاطع مع صلاحيات رئيس الوزراء "لفرملة" الحكومة، وهو ما أوقع الرجلين في مواجهة مباشرة عند أكثر من محطة تقريرية، خصوصا أن أسلوبهما مختلف في الإدارة والتدبير. بعد 20 شهرا تحديدا، وصل رأسا الحزب إلى النفق المسدود، وهو ما توقعه كثيرون؛ إذ لا يمكن أن يستمر نموذج الحكم بين الرئيس الملقب بـ "السلطان" الذي يؤمن بأنه القائد الأوحد للبلاد، ورئيس وزرائه البروفيسور المحنك سياسياً، الذي يعتمد على الدبلوماسية في إدارة البلاد داخلياً وخارجياً. لذلك كانت النتيجة، وكما في قصص الأطفال، عندما يركب اثنان الحصان نفسه فلا بد لواحد منهما أن يرجع إلى الخلف. هذا هو حال الرئيس ورئيس الوزراء، حيث انتهى الصراع بينهما على من يقود تركيا إلى نزول الثاني من الحصان، وبقاء السلطان وحيداً. محطات الخلاف بلغة الأرقام أردوغان هو الرئيس الثاني عشر للجمهورية التركية، وليس أول رئيس قوي لها، فتاريخيا مر في ذات المنصب أشخاص أقوياء مثل مصطفى كمال وعصمت إينونو؛ كما أن ديميريل وأوزال لم يكونا رئيسين ضعيفين بالتأكيد. والتوتر بين رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومة ليس أمرا غريبا. لكن ثمة معطى جديدا هذه المرة مضافا إلى شرعية السلطة عند أردوغان يتجلى في كونه أول رئيس يتم اختياره بالاقتراع الشعبي المباشر في تاريخ تركيا. من جهته ربما يكون داود أوغلو، المدمن على قراءة الكتب، قد تجادل بهدوء مع أردوغان في بعض الأحيان، لكنه حاول التهوين من شأن الانقسامات بشكل عام. ووفقا لشهادة من البيت الداخلي التركي على لسان البشير أتلاين نائب رئيس الوزراء السابق، قال "إن رئيس الوزراء أبدى قدراً كبيراً من الحكمة والصبر، واستطاع تسيير أمور الحكومة والدولة دون أي مشكلات تذكر، مفسحاً المجال لرئيس الجمهورية أن يأخذ مجاله ومداه، لكن رغم ذلك فإن الثنائية في إدارة الدولة لا بد أن تفرز آثاراً سلبية". وجد أوغلو نفسه مجبرا في كل مرة على العدول عن قراراته لمصلحة قرارات الزعيم الذي يفترض دستوريا أنه استقال من حزبه، واستقل عنه حين انتخب رئيسا. لكن ملفات كثيرة حسمت كما أرادها، وأخرى لم ينخرط فيها رئيس الوزراء لاختلاف رؤيته لها. نذكر منها: - إجبار رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان على العودة إلى منصبه، بعدما استقال منه استعدادا لخوض الانتخابات التشريعية، وشغل منصب وزير الخارجية وفق اتفاق أبرمه مع داود أوغلو. - إيقاف أحمد داود أوغلو المفاوضات في قصر دولما باهتشي مع الأكراد بعدما رفض أردوغان هذا الأسلوب، وتفضيله خيار المواجهة المسلحة ضدهم. - فتور حماسة داود أوغلو لمساعي الرئيس لتعديل الدستور لإقرار نظام رئاسي؛ فالمسألة غير مستعجلة عنده بعدما قال الشعب كلمته في الانتخابات التي أفقدت الحزب الأغلبية في البرلمان التركي. - عدم انخراط رئيس الوزراء في الحرب على جماعة فتح الله غولن التي يعتبرها الرئيس الكيان الموازي الذي يخطط للإطاحة به، والمعركة ضدها معركة وجودية. - النتائج الإيجابية للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقية شينجن واللاجئين التي تحسب لمصلحة أوغلو يعتبرها أنصار أردوغان تساهلا مع الغرب الذي يهاجمه أردوغان في كل فرصة تتاح له. - قرار لجنة الحزب المركزية المحسوبة على الرئيس بتجريد رئيس الحزب من صلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب دون علمه، الذي اعتبر القشة التي قصمت ظهر البعير. المعركة الأقدم تصاعدت أخيرا لهجة السلطان تجاه المفكر، حين اتهمه - بشكل مباشر - بسرقة الأضواء، عند تعليقه على مسألة التأشيرات "خلال فترة وجودي كرئيس للوزراء، تم الإعلان عن أن السفر بالشنجن سيدخل حيز التنفيذ في تشرين الأول (أكتوبر) 2016. لا أستطيع أن أفهم لماذا يتم تصوير تقديم الموعد أربعة أشهر على أنه انتصار". بداية الشهر الجاري قال الرئيس في تلميح إلى رئيس وزرائه "يجب على أي مسؤول أن يعلم جيداً أنه جاء ليكون خادماً للشعب، والأهم من ذلك أن يعلم جيداً كيف جاء إلى هذا المنصب"، في تلميح منه إلى دعمه سابقا ترشيح داود أوغلو لرئاسة الحزب والحكومة. ردُ رئيس الوزراء لم يتأخر كثيرا، حين خطب أمام الكتلة البرلمانية للحزب "لا أخشى سوى الله، لا ما يُكتب ويُقال عني، وأنا مستعد للتخلّي عن أي منصب، وأن أضحّي بنفسي في سبيل بقاء حزب العدالة والتنمية متماسكاً". هذه الحرب ليست بالجديدة داخل الحزب بل سبقتها مواجهة بين أردوغان والرئيس السابق عبدالله غول عندما انتقد السياسة الخارجية لأردوغان، في لقاء له في صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية، بتاريخ 15 نيسان «أبريل» 2015، قائلا "إن تركيا بحاجة إلى مراجعة سياستها في الشرق الأوسط، والعالم العربي بتبني سياسات واقعية"، قبل أن يضيف "إن تركيا تواجه مخاطر نتيجة سعي الرئيس أردوغان إلى السيطرة على السلطة... إن تركيز السلطة السياسية في أيدي أردوغان يهدد بتدمير الديمقراطية التركية". ختاما نشير إلى أن دلالات المؤتمر الأخير كثيرة تبقى أبرزها اثنتين، أولا: إن داخل الحزب لم يعد هناك متسع للتسامح مع المعارضين للرئيس. وإن الدور جاء اليوم على أوغلو بعدما أُخرجت أسماءً ثقيلة بهدوء، أبرزها: بولنت أرِنتش، علي باباخان، البشير أتالاين وحسين شيليك... وآخرون. ثانيا: الافتراق بين أوغلو وأردوغان، بين الفيلسوف والسلطان، بين المفكر والسياسي، وهو افتراق حتمي لتسير السفينة بشكل أفضل كما يقول أنصار السلطان، ولأن قبح السياسة لن يتغير كما يقول أنصار الفيلسوف.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم