المشراق

سلطان مارد والضياغم .. بين الحقيقة والأسطورة

سلطان مارد والضياغم .. بين الحقيقة والأسطورة

سلطان مارد والضياغم .. بين الحقيقة والأسطورة

للموروثات الشعبية والأشعار النبطية دور مهم في حفظ صفحات من تاريخنا، لا نعثر لها على أثر واضح في التواريخ المعروفة، وهذه ميزة تزيد من قيمة هذه الموروثات والأشعار، ولكن يعيبها اختلاف رواياتها وعدم دقتها، وما دخلها من مبالغات أبعدتها عن الواقع التاريخي، وجعلت الباحث يتعامل معها بحذر وتمحيص كي يستنبط منها ما هو قريب من الحقيقة. ومن بين هذه الموروثات والأساطير قصة سلطان مارد. سلطان مارد يتناقل أهالي نجد، وبخاصة أهالي القصيم أساطير وحكايات وأشعارا نبطية عن شخص بالغ الأهمية والقوة، اشتهر هذا الشخص بلقب سلطان مارد، ولا يعرف من اسمه الحقيقي سوى سلطان، وهم متفقون على ذلك، يقول الشاعر: تقابل حميدان وسلطان مارد تهيا من كف ذا لهذا صواب ويذكر عن سلطان مارد أنه عمر بلدة الأسياح، وقام ببناء قصر مارد، وأنشأ سدا فيها يسمونه "المسكر"، ونسبت له جميع الآثار الباقية العمرانية والزراعية. وتزعم العامة ــــ كما ذكر الشيخ العبودي ـــ أن سلطان مارد سمي ماردا لأنه تمرد على من أرسله وخرج عن طاعته، ويذكرون أن سلطانا هذا كان واليا لأحد حكام العراق، فبعثه على رأس طائفة من الجند ليقيموا في الأسياح فيمنعوا الأعراب من الاعتداء على الحجاج الذين يأتون من العراق، وأنه وكلت إليه المحافظة على شرق الطريق كله، فجعل مقره في الأسياح، إلا أنه أعجبه ماؤها وجودة تربتها للزراعة، فأجرى إحدى عيونها، وعمر قصره العظيم فيها، ما جعله يمتنع حتى من الحاكم العراقي الذي أرسله، وتمرد عليه. وبعد أن أخضع الأعراب لحكمه أعلن استقلاله بالأسياح، والتفت إلى النواحي العمرانية فيها فحبس مسايل السيل، وحصن الحصون، فأمنت البلاد في عصره، وأصبح سيدا لتلك الناحية بغير منازع. وحسب روايات العامة فإن سلطان مارد هذا، أعجمي الأصل، ليس عربيا ويقول أغلبهم إنه رومي، وأهل نجد غالبا ما يطلقون لفظة "رومي" على الشخص الذي أصله تركي، لكن تذكر بعض الروايات أن سلطان مارد هذا كان عبدا أسود الوجه. لا يعرف بالضبط من أرسل سلطان مارد، ولا الفترة الزمنية التي عاش فيها سلطان مارد، ولكن يرجح الشيخ العبودي أنه عاش في القرن العاشر الهجري، ويستدل على ذاك بعدة أمور منها: 1 – أن الشعر الذي قيل في عصره ووصل إلينا هو من الشعر العامي النجدي "النبطي" الذي يشبه أشعار تلك الفترة "القرن العاشر الهجري". #2# 2 – أن قصر مارد الذي ينسب إليه سلطان مارد يظهر من هندسة بنائه أنه من طراز البناء في تلك الفترة، فبناؤه من الحجارة والآجر يشبه البناء في القرن العاشر في العراق. 3 – أن اسم سلطان مارد اقترن باسم الضياغم من شمر، وعهد الضياغم كان في تلك الفترة. 4 – أن تلك الفترة هي أشد الفترات ظلاما، لذلك يندر أن نعثر على نص واحد مكتوب عن تاريخ تلك المنطقة، وهذا ما اتسم به عصر سلطان مارد. لكن هناك باحثا آخر يرجح أن سلطان مارد عاش في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري في الفترة بين عامي 850 و900 هـــ ولا يوجد لدينا دليل قاطع أو نص تاريخي يحدد الفترة الزمنية التي عاش فيها سلطان مارد، فتلك الفترة الضبابية، فترة الظلام التاريخي التي لا نجد فيها نصوصا تاريخية تسعفنا في الوصول إلى الحقيقة. ولولا الشعر النبطي والموروثات الشفهية لطمرت تلك الحقبة من ذاكرتنا تماما. وتذكر الروايات العامية الشعبية: أن سلطان مارد بلغ من قوة النفوذ حدا كبيرا، خيل إليه أنه لا يستطيع أحد من الأعراب أن يمتنع عما يريد منه، لكنه اصطدم بالقوة القادمة "الضياغم"، الذين كانت نهاية سلطان مارد على أيديهم. وأحب أن أشير إلى أن أسطورة سلطان مارد هذه يرويها بعض الناس في منطقة الجوف على أنها حدثت في منطقتهم، عند حصن مارد الشهير، يروونها بنفس التفاصيل تقريبا. الضياغم .. ونهاية سلطان مارد الضياغم قبيلة عربية قحطانية، هاجرت من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، ويفهم من كلام ابن رسول في "طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب" أنهم كانوا في القرن السابع الهجري موجودين في جنوب الجزيرة العربية، ويتوقع أن هجرتهم إلى نجد كانت في القرن التاسع الهجري. ومن هذه الهجرة نشأت أسطورة الضياغم الجميلة، وهي طويلة جدا، وما يعنينا هنا هي قصتهم مع سلطان مارد، الذي كانت نهايته على أيديهم. أبطال الأسطورة سلطان مارد، ومن الضياغم: عرار وعمير، وهما أبنا عم، وميثاء، وتختلف الروايات، فمرة يجعلونها زوجة عمير، أخت عرار، ومرة يجعلونها أخت عرار، وفارس الضياغم: حميدان. وأشهر هذه الروايات تقول: ذات يوم كان جماعة من الضياغم قاطنين على الأسياح، فرأى سلطان مارد صبيا منهم يسبح في ماء العين، وسأل: هل له أخت؟، قالوا: وكان يسمعه رجل من الضياغم اسمه عرار آل راشد، كان له ابن عم على خلاف معه اسمه عمير، وله أخت اسمها ميثا، فأراد عرار أن يكيد لابن عمه عمير، فقال لسلطان مارد: نعم إن له أختا تسمى ميثا، ويمكنك أن تطلب يدها من أخيها عمير، لعلمه أن عمير لا يستطيع أن يمتنع من سلطان مارد، فأرسل سلطان مارد إلى عمير يطلب منه أخته ميثا. قالوا: فرجع عمير إلى قومه وقد ارتفعت ملابسه من شدة الغضب، فسألوه عن السبب، فأخبرهم الخبر. قالوا: وكان لعمير أخ أبكم لا يتكلم اسمه حميدان، فارس شجاع، فلما سمع الخبر نطق بكلمة لم ينطق بعدها شيء: "ميثا لا" وذاك لشدة غضبه، عندها اتفق القوم على ألا يزوجوا ميثا لسلطان مارد، واحتالوا عليه، وبيتوا أمرا هو أن يطلبوا منه مهلة لكي تستعد فيها ميثا للقائه، ثم وضعوا بديلة عنها أمة سوداء، داخل هودج، وطلبوا منه ألا يقربها حتى يختفوا عن نظرها، لئلا يسمعوا صياحها لأنهم أرغموها على الزواج، فلما ذهبوا ودخل على الفتاة لم يجد ما كان يتوقع فعرف الخديعة، وسار بجنده في إثر الضياغم حتى أدركهم في الصريف، فتقاتل القوم، والتقى سلطان مارد بحميدان، فضرب كل منهما خصمه ضربة قضت عليه وماتا معا، وانهزم جيش سلطان مارد بعد مقتلة كبيرة جرت عليهم، وحمل الضياغم حميدان فدفنوه في الصريف، قالوا: ولا يزال قبره معروفا! وفي ذلك يقول شاعرهم، ويقال إنه عمير بن راشد نفسه، والبعض ينسبه إلى ميثا، مع اختلاف في بعض الأبيات والألفاظ: تهيا لنا عند أبرق السيح عركه تمناه حضار الرجال غياب تقول ميثاء يا الراشد يا هلي الروم لحقونا بغير حساب لحقونا يبون ميثا غصيبه ودون ميثا صبيان تسن حراب يبون ميثا نقوة من حريمنا وأنا اقول غبها خزوة وعتاب حجاب يذود الخيل في ذارع القنا ولا عاد ما يثني لهن رقاب وتناطح حميدان وسلطان مارد تهيا لذا من كف ذا صواب تعاقبوا ضربا بشلفا سنينه عرينية تودع الدروع خراب ترى مذبحه بالدمث بالرمث بالصفا حوالي قويرات الصريف نصاب ترى ذبحا بالبرقا ثمانين ملبس غير العواري مالهن حساب والقصيدة في روايات أخرى أطول من ذلك بكثير، بل إنك لا تجد روايتين متفقتين لهذه القصيدة. وأعود وأكرر أن هذه القصة على أشهر أقوال الرواة حدثت في منطقة القصيم، لكن هناك أيضا من يذكر أنها حدثت في منطقة الجوف. وللدكتورة أليسون ليريك كتاب "روايات من تغريبة بني هلال وحروب آل ضيغم"، أوردت فيه جانبا من أخبار وأشعار الضياغم، وللأستاذ البحاثة أحمد العريفي في تلويحاته الرائعة جزء مهم في أخبار الضياغم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق