ثقافة وفنون

«فتنة الاستهلاك» .. متع عابرة ووعود زائفة بالسعادة

«فتنة الاستهلاك» .. متع عابرة ووعود زائفة بالسعادة

«فتنة الاستهلاك» .. متع عابرة ووعود زائفة بالسعادة

"لا أقرأ الإعلانات، فأنا إن فعلت سوف أقضي جُل وقتي أرغب في الحصول على أشياء" تعود هذه الحكمة البليغة إلى الكاتب والأديب التشيكي فرانز كافكا Franz Kafka الذي أدرك كنه جوهر النزعة الاستهلاكية؛ الذي يربط الوجود بالاستهلاك تحت شعار "أنا أستهلك إذن أنا موجود"، فصارت بذلك كماليات الحياة ورفاهيتها ضمن الضروريات، واقترنت "السعادة" اقترانا شرطيا بلزوم توافر كل تلك الأشياء. عين الفكرة عبر عنها الفيلسوف الألماني الأمريكي إريك فروم Erich Fromm في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر" بتأكيده على أن النزعة الاستهلاكية لدى الإنسان صيّرته ذلك الرضيع الأبدي الذي لا يكفُ عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة. أفلحت الولايات المتحدة في تسويق صورتها، ومن خلاله تصدير نظامها المزدهر ونمط العيش فيها وديناميكية تاريخها الخاص كنموذج للآخرين. وهكذا بلغ الأمر لدى البعض حد المرض أو الهوس بالشراء والتبضُع. #2# قد يختزل بعض القراء الأمر في مجرد موقف - للداعي لكم بالخير- من نمط العيش في دولة صار نموذجا يطمح إليه كل فرد على وجه الأرض، لكن المسألة أكبر من ذلك بكثير وتتجاوز الآراء الذاتية إلى قضية ترتبط بمصير هذا الكوكب ومستقبل الأجيال القادمة إليه. لكن كيف ذلك والناس فرادى وزرافات يسعون وراء هذا النموذج؟ توصلت ثلة من الباحثين أخيرا، وباعتماد دراسات مقارنة أن عيش سكان الصين لوحدهم على النمط الأمريكي، يفترض أن توفر الأرض ثلاث مرات ما هي عليه الآن من المواد الطبيعية. وعليه أصبحت متوالية الزيادة في الإنتاج بهدف تحقيق المزيد من الاستهلاك، وبالتالي المزيد من الرفاهية والسعادة التي يقوم عليها الاقتصاد الحالي محط شك وارتياب، نتيجة المحدودية الحاصلة في الموارد الطبيعية. تاريخيا يُشير الكاتب الأمريكي روجر روزنبلات Roger Rosenblatt في كتاب "ثقافة الاستهلاك: الاستهلاك والحضارة والسعي وراء السعادة" -الذي أشرف على تحريره- إلى أن دور الإنفاق في إحداث بعض التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع دور حديث للغاية، ففي العصور السابقة عندما كان يتحدد الوضع الاجتماعي بالميلاد والتاريخ والطبقات لعب الإنفاق دورا ثانويا في الحفاظ على الوضع الاجتماعي. وكان الاستهلاك مقيدا أكثر بالمكانة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد لا إلى الجنون والمرض الذي هو عليه الحال اليوم. الرأي ذاته نجده عند السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu في كتابه "التمييز: نقد اجتماعي للحكم على الذوق"، وذلك بتأكيد أن الحياة اليومية مملوءة بأعمال "مصغرة" لأوضاع اجتماعية تؤدي إلى الإدراج في، أو الاستبعاد من، الجماعات الاجتماعية المفضلة. ويستخدم أفراد الطبقة المميزة عاداتهم الاستهلاكية للحفاظ على هوية طبقتهم، واستبعاد الطبقة الأقل مقاما. على هذا الأساس تظهر أن فتنة الاستهلاك الآخذة في الانتشار عبر سياسة الإشهار واستثارة الغرائز لدى الإنسان المعاصر، قد غدت الرياضة المفضلة لكل الشركات المنتجة التي تسعى للربح السريع لأجل مراكمة الثروات. لذلك أصبحت الوفرة في المقتنيات غاية بذاتها، بعدما كانت الحاجة هي الدافع الأساس عند الناس لشراء. وهكذا أيضا أضحى الاستهلاك شكلا جديدا من أشكال التملك، بل صار أكثرها أهمية في مجتمعات الوفرة المعاصرة، حيث تقوم لذة الشراء مقام الحاجة إلى الشيء المقتنى ذاته. يظهر إذن أن القواعد المؤطرة للعملية الاستهلاكية لدى الانسان المعاصر شهدت انقلابا جوهريا من أساسها، ففي السابق كان موضوع الشراء يحظى بالعناية والرعاية والحفظ، والاستخدام حتى آخر حدود الاستعمال. أما الآن، وفي ظل ميُوعة الثقافة الاستهلاكية فالاقتناء لا يتم كي نحفظ ونستعمل ما اشتريناه مدة أطول، بل لأن نرمي به في الحين ثم نسعى إلى شراء جديد في عملية غريزية لا منتهية. هكذا أصبح الإنسان بموجب هذا المنطق أسير حلقة لا متناهية من الشراء؛ أو بالأحرى فريسة سهلة لاستلاب النزعة الاستهلاكية المعاصرة التي لا ترحم. وذلك بتركيز خبراء الإشهار في منطق الاستهلاك؛ وبالتحديد في الخطاب التواصلي الإشهاري، على قلق وضجر الإنسان المستهلك الحالي الذي يملّ بسرعة قياسية من مقتنياته، فتراه يقبل باستمرار على شراء الطراز الجديد ومتابعة آخر نسخ المنتوج بما تتضمنه من تحسينات وعروض. فيرمي بالقديم منها، ويشتري الجديدة بشكل دائم، وهكذا دواليك؛ فالمنتوج المقتنى هو ذاته في جوهره (سيارة، هاتف، ساعة،...) لا تحلق التغييرات سوى بعض الاكسسوارات الخارجية تبعا لأسباب واهية يبتكرها المنتج لمزيد من الاستهلاك (الفصول، الألوان، الموضة،...). في العقود الأخيرة، وبالتزامن مع الانتشار الواسع لمنظري الفلسفة البيئية، حظيت المسألة الاستهلاكية بنصيبها في الكتابة والبحث لدى بعض رموز الفكر المعاصر ممن أعادوا النظر في فكرة أن الرفاه مسألة اقتصادية محضة، أي مجرّد زيادة في النمو وتشجيع للاستهلاك. فهذا الاقتصادي الأمريكي -الحاصل على جائزة نوبل عام 2002 – فرنون سميث Vernon L. Smith يثور على ديكتاتورية الإنتاج والاستهلاك داعيا البشرية إلى أن تأخذ في الاعتبار البيئة والصحة عن طريق توجيه الإنتاج وترشيد الاستهلاك، وذلك عبر تشجيع التقنيات الرفيقة بالبيئة واقتصاد التنمية المستدامة. في حين لا يتردد إريك فروم بالدعوة جهارا إلى تبني مذهب "الاستهلاك الرشيد" بدلا من "الاستهلاك المرضي"؛ أي الاستهلاك العقلاني المصاحب بنوع من الغائية الأخلاقية. أما المعارض الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي Noam Chomsky فلا ينفكك في الصدح عاليا بالويلات التي تتهدد البشرية إن لم تضع قطيعة مع نمط العيش الأمريكي "أعتقد أنه لا أمل على الإطلاق في مستقبل أفضل للبشرية، وخاصة مع ازدياد اكتساح النموذج الأمريكي المادي الاستهلاكي على مستوى العالم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون