تاريخ المصارف.. من «حضارة بابل» إلى «قلاع سويسرا»

تاريخ المصارف.. من «حضارة بابل» إلى «قلاع سويسرا»

تاريخ المصارف.. من «حضارة بابل» إلى «قلاع سويسرا»

التقنيات الجديدة التي لا تتوقف عن النمو، غيَّرت، بل تُغيِّر في كل ساعة وقائع العالم الصغيرة، ومثلما غيَّرت هذه التقنيات بلا هوادة أوجه القطاعات الاقتصادية ـ الصناعية ـ التجارية ـ الاجتماعية ـ الثقافية ـ الفنية، وغيرها، فقد غيَّرت ولا تزال المصارف، واللعبة المصرفية، ومعطيات المصرفيين، حتى أصبحت المصارف على يقين أنها ستواجه وصول لاعبين مصرفيين جدد يتحكمون بالأسواق والمال في عالم جديد، ليس هو ذاته الذي نشأت فيه مؤسساتها قبل أكثر من قرنين. يتم الحديث في سويسرا (معقل المصارف)، أنه في كل اجتماع صباحي تقريبا يعقده مصرف ما، يكون تحدي التقنيات الجديد مطروحا على جدول الأعمال، وأن المصارف تتساءل على الدوام، كيف سيكون وجه صناعتها، وكيف ستتأثر بظهور التقنيات الجديدة، وصعود المؤسسات الإلكترونية المشاركة في تمويل الأموال، وانفجار المعلومات الكبيرة، والخوارزميات القوية، وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي، وغيرها، على طرق المصارف في الاتصال والتواصل مع عملائها. تسأل المصارف: هل نقوم بواجبنا بما يكفي في النظر إلى التقنيات الحديثة كمنافس لنا في المستقبل؟. #2# هناك عبر المحيط الأطلسي، في الواقع، عمالقة الشبكة العنكبوتية: «أبل»، «جوجل»، «الفيسبوك»، «واتساب»، هم لاعبون غير مصرفيين لكنهم أطلقوا مبادراتهم المصرفية وهم مستعدون لخوض المعركة. أما أسماء أسلحتهم فهي “أبل باي “ الدفع بواسطة أبل “ أندرويد باي” الدفع بواسطة أندرويد أو “واتساب”، الذي تم شراؤه العام الماضي من قِبل فيسبوك بمبلغ 19 مليار دولار، أو الدفع بواسطة “فيسبوك”، الذي أصبح الآن يتيح نقل الأموال عن طريقه، علاوة على فتحه منصة يمكن من خلالها التقدم بطلب رخصة مصرفية، و“لندنج كلوب” (نادي الإقراض)، وهي منصة للإقراض، حصلت على ما يقرب من مليار دولار، خلال عام واحد. جميع هذه الأنظمة تتمتع بخاصية تبسيط المعاملات التجارية والمصرفية، وخفض تكاليف الخدمات الموجودة حاليا، أما تطورها المستقبلي فسيتركز على المزيد من تيسير الدفع بواسطة المزيد من تقنيات الدفع من دون الاتصال بموظف المصرف، وهي العملية التي أطلق عليها اسم “خدمة فك التلامس”، أي خدمة عدم الاتصال بمستشارك المالي في المصرف. تتمثل المنافسة الحقيقية التي يواجهها القطاع المالي والمصرفي في أي مكان في العالم في تطور تقنية المعلومات، وتحديدا تيسير الاقتراض والدفع عبر الهاتف النقال، وهو أمر جعل من مؤسسات بطاقات الائتمان التي تربح المصارف من خلالها أيضا، مهددة مباشرة باللاعبين الجدد الأرخص، والأسرع، والأكثر كفاءة. في بلد المصارف، سويسرا، الصراع يدور رحاه بين نظم الدفع التي تتبعها المصارف، وتلك الجديدة القادمة من العالم الجديد، كنظام “بايميت Paymit»، ونظام الدفع “توينت» Twint و“ستارت أب start-up»»، وقد فتح النظام الأخير منصات جديدة في الشبكة العنكبوتية للخدمات المصرفية تضاهي ما للمصارف، إذ تجمع بين سهولة الاستخدام، والتقنية، والفورية. يتمثل التحدي الرئيس، بتطبيق “بايميت Paymit»، الذي يسمح في نقرات قليلة فقط بتحويل، وطلب، وتلقي، وإيداع الأموال بطريقة سهلة وسريعة ومأمونة، بغض النظر عن المصرف الذي فتح فيه العميل حسابه، ومع أي مصرف في العالم يجري التعامل معه. وكذلك نظام الدفع «توينت Twint» الذي أصدره صيف 2015 مصرف “بوست فينانس”السويسري، وهو نظام جعل من الهاتف المحمول محفظة نقود يتم من خلاله نقل الأموال من هاتف ذكي إلى آخر، دون أن ينسى إبلاغك بكمية النقود التي بقيت لديك. لمواجهة هذه “المخلوقات الجديدة” الآتية من عالم وادي السيلكون، انطلقت المصارف التقليدية بتبني النظامين في السوق. وفي محاولة لتقديم بديل أكثر جذبا للعملاء قبل وصول منافسيهم الأمريكيين بابتكاراتهم التقنية، تبنت أغلب المصارف السويسرية التطبيق المجاني للنظامين من دون رسوم للعملية، سواء في شراء بيتزا بعشرين دولارا، أو دفع قيمة بطاقة قطار، وحتى بطاقة حافلة ركاب بثلاثة دولارات وصولا إلى تحويل مئات الآلاف من الدولارات، إذ تهبط أموال الدفع على الحساب المصرفي للمدفوع له مباشرة. إذا، عالم الشراء، والبيع، والمدفوعات، وحتى الاستثمار في كل زاوية من زوايا العالم أصبحت، بالتأكيد، تنافسية جدا. بالنسبة للمصارف التي لم تطور أسلحتها لخوض معركة التقنيات الجديدة والمتجددة على الساحة، فإنها ستخسر القيمة المضافة التي ستذهب إلى مكان آخر من ساحة المعركة، مثلما قال لـ «الاقتصادية » برونو ريشيل، المسؤول في شركة “كريالوجكس”، وهي إحدى الشركات السويسرية الرائدة في تقنية المعلومات المصرفية. بالتالي، على أي أرض، وأي أساس ستتنافس المصارف المتأخرة قليلا عن اتخاذ الخطوة الحاسمة في هذا التطور؟ هل خوارزميات المستقبل ستكون قادرة على أن تحل محل أفضل المديرين والمحللين الماليين والمصرفيين؟ وهل أن مَن قدَّموا المصطلح المذهل «الذكاء الاصطناعي» كانوا يعرفون أن البرامج الحاسوبية التي تتفوق، أو تحاكي، القدرات العقلية البشرية وأنماط عملها على التعلم، والاستنتاج ورد الفعل، ستحل، على المدى المتوسط، محل مديري الأصول في المصارف؟ بمعنى آخر، مع هذا التطور الهائل في تقنية المعلومات، هل ستقرر الآلة ذاتها، وليس مختص الاستثمار في المصرف، أي سهمٍ تشتري أو تبيع؟ وهل ستكون التقنيات التي تتنافس فيما بينها قادرة على منافسة تقاليد المصارف في إدارة الثروات الذي تقوم به منذ أكثر من قرنين؟ من وجهة نظر المصارف، أن الإجابة على هذه الأسئلة، تتطلب التأمل في القيم الرئيسة التي تميز المصارف في إدارة الثروات، والتي ربما ستظل أساسية في أعين العملاء الحاليين. بالنسبة للمصارف، هناك عناصر ثلاثة تتحكم في هذه المسألة: الثقة، والخبرة، والقرب. يقول لـ”الاقتصادية» المحلل المالي، أوليفيه كومبا، إن الثقة أمر أساسي في العلاقة المصرفية بين العميل ومدير أعماله الذي يدير ثروته. العميل ينتظر أن يقدم له مدير أعماله أفضل مشورة، سواء كانت في الاستثمارات المالية، أو على نطاق أوسع، في إدارة الثروات، أو حتى عن حياته الخاصة. هناك بالفعل حواسيب مزودة ببرامج مالية خاصة قادرة على تحليل ومحاكاة أداء الاستثمارات، لكن في أغلب الأحيان، يفضل العملاء الاعتماد على مشورة مديرهم ليرشدهم إلى الأفضل في عملية الاستثمار وفي إدارة أصولهم. يضيف” أننا في بعض الأحيان، وعن حق، نُقارن المصرفي بطبيب الأسرة عندما كانا الجهتين الوحيدتين اللتين تملكان المعرفة، هذا الوضع الذي ساد العصر الذي سبق تقنية المعلومات قد ذهب. الآن، يذهب المريض إلى طبيبة وهو يحمل معرفة لا بأس بها عن مرضه كان قد تعرف على تشخيصها، وعلاجها، وتفاصيلها عموما من خلال بحثه على الشبكة العنكبوتية. هذا الشخص هو نفسه الذي يزور المصرفي ويحمل في رأسه أفكارا جيدة حول استراتيجية الاستثمار التي يود تنفيذها. يضيف، أنه ينبغي الآن على المصرفي، مثله مثل، طبيب الأسرة، أن يتكيف مع الثورة التقنية، وأن يُسدي أفضل المشورة للعملاء الذين أصبحوا أكثر فأكثر اطلاعا على أوضاعهم والوضع المالي والاستثماري في العالم. ويرى أوليفيه كومبا أنه رغم كل التقدم التقني الحالي والآتي مستقبلا، سنكون، مع ذلك، بحاجة دائمة إلى الأطباء، فضلا عن الخبرة الفنية للمصرفيين لدى المصارف. ويضيف”إذا كانت هذه الحقيقة هي الحالة السائدة بالفعل اليوم، فإنها ستكون على الأرجح أكثر صدقا في الغد في عالم حيث المعلومات، بل حتى تخمة عالية من المعلومات، منتشرة في كل مكان».الثقة ترتبط ارتباطا وثيقا في العنصر الرئيس الثاني، وهو «الخبرة». يتساءل، كومبا، بصيغة التحدي: لو كان هناك جهاز حاسوب مزوَّد بكافة أشكال الذكاء الاصطناعي الذي من الممكن أن نتخيله أو لا نتخيله، هل بمقدور هذا الحاسوب أن يُنافس الخبرة والحس السليم لمستشاري العملاء في المصارف؟ ويتساءل مرة أخرى: هل أن المعطيات المالية المسجلة في «البيانات الكبيرة» (Big data) المخزونة في الحواسيب سيتم تحليلها بتلك الكفاءة والدقة والنعومة التي يحللها «علماء البيانات» في المصارف؟ وهل بمقدور «البيانات الكبيرة» أن تحل محل خبرات أفضل مستشارينا الكبار الذين عاشوا، على سبيل المثال، الأزمات المالية الأخيرة؟ يجيب: نحن كمصرفيين لا نعتقد هذا. يقول: على النقيض من ذلك، فإن هذه التقنية ستكون، خلافا للمتوقع، خاضعة لخدمة المصرفيين في الغد الذين سيحتاجون إلى خبرات جديدة لتحليل البيانات بهدف تلبية الاحتياجات المتغيرة لعملائها بصورة أفضل. المصارف كما يقول أوليفيه كومبا تتمتع بأكثر من قرنين من الخبرة في مجال إدارة الأصول. وعلى الرغم من أنه من الممكن فعلا أن تعهد المصارف إدارة الثروات للتطبيقات المحوسبة، إلا أن لا مصلحة للعميل أن يضع ثروته في أيدي أنظمة برامج محوسبة لا يتجاوز عمرها عشر سنوات، ولا سلطة معنوية أو قانونية أو تشريعية عليها. غير أنه يشدد على القول، بأنه ينبغي على المصارف، خاصة الصغيرة، أن تأخذ زمام مصيرها، وألا تفوت منعطف الرقمنة. العنصر الأساسي الثالث في أعين المصارف، هو “القرب”، غير أن هذا العنصر يميل إلى فقدان أهميته، أو بالأحرى تطوره، إذ تظهر الإحصاءات في الواقع، أن الحضور الفعلي للمستشار المصرفي قد تراجع عند مقارنتها مع عدد زيارات العملاء على الشبكة العنكبوتية، وأن الأرقام لا تزال في تصاعد كبير. يقول، كومبا، إن مفهوم القرب يُمكن «رقمنته» هو الآخر، فـ «العملاء الرقميين» يريدون كل المعلومات، وكل المقارنات، وكل النتائج، وكل شيء تقريبا مع النصيحة الأخيرة فورا بدون إبطاء، وعلى أجهزتهم وهم يتحركون دون أن يعيق ذلك قدرتهم على الحركة … وعليه ينبغي على المستشار المصرفي مواكبة هذا الاتجاه، وأن يُقابل عملاءه ويلبي رغباتهم بحركة سريعة حيث يوجدون، أي في كثير من الأحيان، على الشبكة العنكبوتية، وعلى الشبكات الاجتماعية بدلا من الصالات المؤثثة بأثاث فاخر داخل المصارف. اليوم توفر المصارف مجموعة متنوعة من الخدمات، لكن لديها مهمتان رئيستان، الأولى: قبول الودائع من الناس وإبقاء أموالهم حتى يحتاجون إليها مرة أخرى. الثانية: إعطاء قروض من المال للناس الذين هم على استعداد لدفعها مرة أخرى بفوائد. إذا أخذنا هذا التعريف في الاعتبار، فالمصارف قديمة قدم البشرية، إذ كان الناس في بابل، ومصر القديمة، وبلاد الإغريق يمارسون هذا العمل المصرفي، قبل أن يظهر العمل المصرفي الحديث في البندقية لأول مرة عام 1587، عندما تم تأسيس “بانكو دي ريالتو”، الذي كان يتلقى الودائع ويسمح للمستثمرين بكتابة الشيكات استنادا إلى ما لديهم من مال في المصرف. وإذا استثنينا شفرة مورس، والهاتف، والتلكس، والفاكسميل، وغيرها، بقيت تقنيات العمل المصرفي منذ بابل القديمة حتى عصر «دويتشة بانك»، و «يو بي إس»، و «سيتي بانك»، هي ذاتها تقريبا. لكن ما أن جاءت أوائل السبعينيات والثمانينيات حتى تم اعتماد التقنية تدريجيا التي كانت مطلوبة لتحقيق صناعة مصرفية كاملة تعمل بسلاسة لتوفير المزيد من العوائد على رأس المال للمودعين والمساهمين. وهكذا كانت بطاقة الائتمان واحدة من أعاجيب عام ١٩٧٣ في أوروبا، واختفت الدفاتر والسجلات الورقية، وأصبحت الآلة طريقا للدفع، لكن كل ذلك جرى بصورة مجزأة. في عقد التسعينيات ظهرت تقنيات جديدة بوتيرة سريعة، مدفوعة بالزيادات السريعة في قوة الحواسيب العملاقة المتخصصة في تخزين المعلومات. بعد ذلك، بطبيعة الحال، كان هناك الإنترنت، ثمَّ الكلمة السحرية “دوت كوم”، تلاهما الهاتف المحمول قبل الذكي، وقد سُخِّرت هذه جميعا على أحسن وجه في خدمة صناعة الثروة والمال. لذلك عند فحص ميزانيات تقنيات المعلومات التي تعتمدها المصارف اليوم، فسنقف أمام أرقام ضخمة لا يمكن تصورها، حسب تعبير، أوليفيه كومبا. أما لماذا؟ لأن التقنية هي التي تصنع الثروة، ولا شيء يمكن أن يحدث دون التقنية.
إنشرها

أضف تعليق