النفط الصخرى.. تقشف من أجل البقاء

النفط الصخرى.. تقشف
من أجل البقاء

النفط الصخرى.. تقشف
من أجل البقاء

قاد النفط الصخري الأمريكي منذ إنتاجه بكثافة في الولايات المتحدة ثورة كبيرة في أسواق الطاقة، درج الاقتصاديون على تسميتها ثورة النفط الصخري الزيتي وهي الثورة التي قادت إلى انهيارات حادة في أسعار النفط الخام منذ صيف عام 2014 وحتى الآن وتسببت في خسارة أسعار النفط أكثر من 70 في المائة من قيمتها، حيث كان سعر البرميل قبل هذا التاريخ قد تجاوز 115 دولارا وهبط حاليا إلى نحو 40 دولارا. ورغم أن تكلفة إنتاج النفط الصخري مرتفعة وأعلى بكثير من أسعار النفط التقليدي إلا أن النفط الصخري ما زال يقاوم ظروف السوق على الرغم من استمرار تراجع عدد الحفارات النفطية وتوقف الإنتاج بالكامل في بعض المناطق بالولايات المتحدة وخاصة ساحل “ألاسكا”. وواجهت الاستثمارات في مجال النفط تحديات واسعة وغير مسبوقة وهددت مستقبل الاستثمار في هذا المجال خاصة مع اتساع دائرة إفلاس الشركات، حيث تحدثت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الشهيرة أخيرا عن أكثر من 150 شركة أمريكية للنفط الصخري باتت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس. #2# وفي مقابل حالات الإفلاس الواسعة التي تعرضت لها شركات النفط الصخري الأمريكي لجأت شركات أخرى أقوى في مراكزها المالية إلى إجراءات تقشفية واسعة لتخفيض النفقات التشغيلية والرأسمالية بشكل حاد وكانت قراراتها الأكثر إيلاما تتمثل في شطب الوظائف وتسريح آلاف من العمالة الماهرة في القطاع النفطي. وجاءت هذه الخطوات بالتوازي مع خطوات أخرى تتمثل في تعديل نظم التشغيل والعمل في تلك الشركات ليتم رفع مستوى الكفاءة والابتكار والبحث الدائم عن التكنولوجيا والتقنيات الحديثة التي تخفض تكاليف الإنتاج ما يزيد من قوة الشركات الأمريكية على الصمود والاستمرارية في الأسواق ومواجهة تحدي الانخفاض المستمر في أسعار النفط الخام. ومن ضمن الآليات الأخرى التي فرضت نفسها على واقع إنتاج النفط الصخري في ظل الظروف الصعبة للسوق هي إعادة هيكلة الشركات وانتشار الاندماجات والاستحوذات لتكوين كيانات أكبر وأقوى قادرة على مواجهة ظروف السوق، خاصة أن الشركات المتوسطة التي نشأت مع طفرة النفط الصخري الزيتي واجهت مشاكل حادة تتعلق بالمديونية للقطاع المصرفي ما أدى إلى استحواذ المصارف على عدد كبير من الشركات بعد عجزها عن سداد المديونية. ونجح النفط الصخري – حتى الآن – في الصمود أمام كل التحديات التي سبق الإشارة إليها وأبقى على الإنتاج النفطي الأمريكي مرتفعا رغم تراجع منصات الحفر وحالات الإفلاس بفضل السياسات التقشفية التي تمكنت من ضخ بعض التدفقات المالية للشركات ومكنتها من الصمود وتحقيق التوازن المالي بشكل نسبي، إلا أن استمرار انخفاض أسعار النفط الخام يزيد الضغوط والأعباء على الاستثمارات بشكل كبير. ويذهب المحللون ومراقبو سوق النفط الخام إلى أن السوق يتعرض لحالة من الإغراق في المعروض النفطي في ظل قناعة منتجي النفط التقليدي بعدم اللجوء إلى خفض الإنتاج دعما للأسعار والمراهنة على أن انخفاض الأسعار سيكون كفيلا بإخراج أصحاب الإنتاج عالي التكلفة من المنافسة وبخاصة النفط الصخري الأمريكي. وتسود السوق – بحسب المحللين – منافسة شديدة بين المنتجين بعد أن قاد النفط الصخري طفرة واسع في المعروض النفطي العالمي قدرها البعض بفائض يومي يتجاوز مليوني برميل، ورغم تأكيد “أوبك” أنها ترحب بإنتاج النفط الصخري وتراه ضرورة في إطار تنويع الموارد لتلبية مستويات مرتفعة للطلب في المستقبل، إلا أن كثيرين في السوق يرون أن المنافسة محتدمة بين النفط التقليدي والنفط الصخري وأن قدرة الصخري على المقاومة والاستمرارية أقل نظرا للتكلفة المنخفضة لإنتاج نفط “أوبك” التي لا تتجاوز في المتوسط عشرة دولارات للبرميل، بينما تصل تكلفة الصخري في المتوسط إلى 40 دولارا للبرميل. ولعب النفط الصخري الأمريكي دورا جوهريا في تغيير خريطة الطاقة الدولية بشكل عام وفي أسواق الولايات المتحدة بصفة خاصة، حيث نجح في جعل الأسواق الأمريكية تقترب من مرحلة الاكتفاء الذاتي من النفط بعدما كانت أمريكا المستورد الأكبر على مستوى العالم وكانت تعتمد على نفط أوبك بشكل كبير ثم تحولت أخيرا إلى مصدر للنفط بعد أن رفعت الحظر التاريخي على تصدير النفط الخام وبدأت بالفعل أنشطة التصدير مستهدفة الأسواق الأوروبية بالأساس. ويعتبر تغير ظروف السوق الأمريكي بداية لاشتعال المنافسة على الحصص السوقية بين المنتجين بعدما تحول كل المنتجين تقريبا لمنافسة بعضهم البعض على السوق الصيني وهو الأكبر والأضخم استهلاكا للطاقة وساهمت تخمة المعروض في إغراق الأسواق بالنفط الخام وأعقب ذلك مسلسل مستمر من انهيارات الأسعار. وظلت أوبك رغم الأزمة واثقة من سياساتها عازمة على المضي في الطريق نفسه وهو ترك الأسعار لآليات العرض والطلب والتركيز على الحفاظ على الحصص السوقية والثقة في أن المعروض سيتقلص والطلب سينمو ما سيعيد التوازن في السوق وبدأ بالفعل النفط الصخري في خسارة بعض من الأسواق التي اكتسبها في الفترات السابقة وظلت “أوبك” محافظة على مستويات الإنتاج مع استبعاد كامل لفكرة خفض الإنتاج. ورغم الأعباء الجسيمة التي تواجه النفط الصخري في المرحلة الراهنة التي دفعت إلى التكهن بتراجع حاد له في عام 2016 يتجاوز 700 ألف برميل يوميا، إلا أن بعض العوامل الأخرى يستند إليها الإنتاج الصخري ويأمل من خلالها تجاوز المرحلة الحالية خاصة بعد تقارير أخرى توقعت أن يصل إلى ذروة إنتاجه في عام 2020. ويرى الاقتصاديون والمتابعون في السوق أن الاستثمار في النفط الصخري ليس كبيرا -رغم ارتفاع تكلفة إنتاج البرميل ربما إلى ستة أضعاف تكلفة إنتاجه في دول أوبك - إلا أنه يتمتع ببعض الميزات منها أن الاستثمار الرئيسي في النفط الصخري “مدفوع مقدما” وبالتالي فأي سعر يباع به مكسب لو كانت الشركة المستثمرة كبيرة ولديها عمليات أخرى. وبحسب تقرير لشركة شيفرون الأمريكية العملاقة فإن النفط الصخري وجد ليبقى وينافس وأن استثماراته أعدت بدقة وبرؤية مستقبلية للسوق وحصلت على تمويلات ضخمة من القطاع المصرفي وأن عملية تخفيض تكلفة الإنتاج مستمرة ويتحقق فيها تقدم بشكل يومي وأن رفع مستويات الكفاءة يتم بمعدلات مرتفعة مكنت من زيادة الإنتاج رغم تراجع الحفارات. ويشير تقرير “شيفرون” إلى أن دورة رأس المال في إنتاج النفط الصخرى سريعة وافضل بكثير من مشروعات مثل إنتاج النفط التقليدي من المياه العميقة، التي تحتاج إلى تكلفة رأسمالية مرتفعة وبطء في عملية الإنتاج، موضحا أنه على سبيل المثال أن مشروع استخراج النفط من المياه العميقة قد يتطلب عشرات مليارات دولار ونحو خمس سنوات لبدء الإنتاج بينما يتطلب انتاج النفط الصخري عدة ملايين من الدولارات وأسابيع قليلة لضخ الإنتاج، كما أن النفط الصخرى كخام خفيف لديه فرص تسويق أوسع في الأسواق الدولية ومعدلات طلب جيدة ومتنامية. وتوقع التقرير أن الاستثمارات في قطاع النفط الصخري لن ينتهي بها الحال إلى الانسحاب من الأسواق والإفلاس وإن كانت هناك 150 شركة مهددة بهذا الأمر، إلا أن هناك نحو 600 شركة أخرى لديها آمال وقدرات وآليات لتجاوز الأزمة. وأشار التقرير إلى شركات الطاقة العالمية الكبرى من المتوقع أن تقدم على عمليات استحواذ واسعة لشركات النفط الصخري المتوسطة وهي تتمهل هذه الخطوة حاليا انتظارا لحدوث الاستقرار المنشود في أسعار النفط الخام لكن التقديرات تذهب إلى أن صفقات كثيرة ستتم في هذا المجال في المستقبل القريب وقد تتجاوز قيمتها 60 مليار دولار. واستعرض التقرير عديد من الانجازات التي تمت في مجال تخفيض تكلفة الإنتاج في شركات النفط الصخري من أجل الاستمرار في المنافسة، موضحا أن شركات النفط الصخري طورت تكنولوجيا الإنتاج منذ عام 2009 حتى العام الجاري لتنخفض تكلفة إنتاج النفط الصخري بأكثر من 30 في المائة. وقال التقرير أن التكنولوجيا انعكس تطوراتها بشكل إيجابي واسع على صناعة النفط الصخري وما زال التطور بها سريعا وغير محدود الآفاق، مشيرا إلى أن سعر برميل النفط المناسب لشركات النفط الصخري كان يراوح حول 90 دولارا للبرميل مع بداية ثورة النفط الزيتي ولكن الآن مع تزايد التطور التكنولوجي أصبحت شركات النفط الصخري تستطيع أن تتأقلم مع مستويات أسعار أقل حول 60 دولارا للبرميل ومن المتوقع أن ينخفض السعر إلى قرابة 40 دولارا في الأمد القريب. وعلى الرغم من توقعات انكماش إنتاج النفط الصخري الأمريكي خاصة خلال العام الجاري إلا أن شركة بريتش بتروليوم “بي بي” العالمية العملاقة في مجال الطاقة فاجأت الأسواق بتقرير جديد يتوقع تضاعف إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة على مدى الـ 20 عاما القادمة، استنادا إلى التطور التكنولوجي والذي سينجح بحسب تقدير الشركة في تخفيض تكلفة الإنتاج ليبقى الصخري داخل دائرة المنافسة بقوة في سوق الطاقة خاصة إذا تحققت آمال السوق في طفرة مقبلة في الطلب تستوعب كل موارد الطاقة التقليدية والجديدة والمتجددة. وتذهب تقديرات الاقتصاديين إلى تسارع في نمو موارد الطاقة المختلفة سواء المتجددة خاصة الشمسية والرياح وأيضا احتمالية تطور أساليب إنتاج النفط الضيق خاصة الصخري في الولايات المتحدة والرملي في كندا وغيرها من الموارد، إلا أن التقديرات الاقتصادية المستقبلية تجمع على أن النفظ الأحفوري سيظل مهيمنا على مزيج الطاقة وبفارق كبير عن موارد الطاقة الأخرى حيث تتجه التوقعات إلى أن موارد الطاقة المتجددة في أحسن حالاتها لن تتجاوز 4 في المائة من مزيج الطاقة العالمي حتى عام 2030. ويجمع الاقتصاديون وحتى المنتج,ن المنافس,ن في منظمة أوبك على أن النفط الصخري يمثل قيمة مضافة للسوق وأنه مورد مهم يعزز سوق الطاقة وأنه لا مشكلة في وجوده على خريطة الطاقة العالمية، وإنما المشكلة تتمثل في سوء استغلال هذا المورد حيث تم الإسراع في إنتاجه بشكل غير مدروس وباستغلال غير منضبط له ما عجل بانهيار الأسعار وارتد الأمر على صناعة النفط الصخري التي ما زالت حديثة الخبرة بتطورات سوق النفط الخام في العالم. وبحسب توقعات “بي بي” لتطورات وضع سوق الطاقة في العالم حتى عام 2035 فإن الطلب العالمي على الطاقة سيزيد بنسبة 34 في المائة نتيجة تسارع النمو السكاني والاقتصادي العالمي وزيادة جهود التنمية والتحضر في عديد من الدول النامية وأن حصة النفط ستنخفض قليلا لمصلحة الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة وسيبقى النفط الصخري في دائرة المنافسة والإنتاج مع موارد النفط التقليدي. وتقدم “بي بي” رؤية مختلفة نسبية لواقع السوق وتراهن على تطورات واسعة ودورات اقتصادية جديدة سيخوضها قطاع الطاقة، معتبرة أن إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة قد يستطيع تجاوز تداعيات انهيار الأسعار بعدما تضرر بشكل كبير من هبوط حاد للأسعار بلغ 70 في المائة في أسعار النفط على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية. واعتبر تقرير “بي. بي” أنه في الأجل الطويل من المنتظر أن ينمو إنتاج النفط الصخري من حوالي أربعة ملايين برميل يوميا حاليا إلى ثمانية ملايين برميل يوميا بحلول عام 2030 ليشكل 40 في المائة تقريبا من الإنتاج الأمريكي. وتشير تقديرات “ بي بي “ إلى توقع أن يهبط النفط الصخري الأمريكي على مدى الأعوام المقبلة، لكن بعد ذلك سيتزايد الإنتاج، حيث أوضحت أن إنتاج النفط الصخري حول العالم سيزيد بمقدار 5.7 مليون برميل يوميا ليصل إلى عشرة ملايين برميل يوميا لكنه سيبقى متركزا في الولايات المتحدة. وقال تقرير “بي.بي” إن الوقود الأحفوري ـــ الذي يشمل النفط والغاز والفحم ـــ سيبقى المصدر المهيمن على الطاقة مع توقع أن يشكل نحو 80 في المائة من إمدادات  الطاقة في 2035. ويبقى الغاز هو الوقود الأحفوري الأسرع نموا مع ارتفاعه بنسبة 1.8 في المائة سنويا مقارنة مع نمو قدره 0.9 في المائة للنفط. ومن المنتظر أن يكون الفحم هو الخاسر الرئيسي من تحول العالم نحو أشكال الطاقة الأكثر نظافة مع توقع هبوط حصته في مزيج الطاقة إلى أدنى مستوى على الإطلاق بحلول 2035. ويتوقع الاقتصاديون أن تنمو المصادر المتجددة للطاقة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بحوالي 6.6 في المائة سنويا لتزيد حصتها في مزيج الطاقة من 3 في المائة حاليا إلى 9 في المائة. ونتيجة تهاوي أسعار النفط على مدى العام ونصف العام الماضى تبنت شركات الطاقة استراتيجيات جديدة تقوم على تنويع استثماراتها والتركيز على الأنشطة عالية الربحية قليلة التكلفة وفي هذا الإطار اعتمدت الشركات استراتيجيات مختلفة لتحقيق نمو في المستقبل، وفضلت غالبا التركيز على مجالات خبراتها والمواقع الجغرافية لأصولها الرئيسة. ومن أبرز آليات مواجهة الأزمة المالية تمثلت في انسحاب شركات “يفرون” و”كونوكو فيليبس” وهيس كورب” الأمريكية من مشروعات المياه العميقة الأكثر تكلفة، لتركز على حقول النفط الصخري في الولايات المتحدة وهو ما يعني ثقة هذه الشركات بأن مشروعات النفط الصخري ربما تكون أفضل في الإنتاج والربحية من مشروعات أخرى. وما لا شك فيه أن شركات النفط سواء التقليدي أو الصخري أو الرملي لجأت جميعا إلى سياسات تقشفية لمواجهة أوضاع السوق المضطربة والتي يرجح الكثير من الخبراء أن يعيش العالم في مرحلة النفط الرخيص لفترة غير قصيرة وأن تغيرات جوهرية دائمة باتت تشكل ملامح سوق الطاقة في العالم. وفي هذا الإطار.. خفضت الشركات إنفاقها الرأسمالي الإجمالي، خلال السنة الماضية، وألغت خططا لمشروعات عملاقة تتكلف المليارات لتطويرها وتستغرق ما يصل إلى عشر سنوات حتى تصل إلى مرحلة التشغيل. وفيما يتعلق بوضع النفط الضيق وموارده في كندا فإن الأمر لا يختلف كثيرا عن الوضع في الولايات المتحدة في مجال إنتاج النفط الصخري حيث وصل سعر الخام الثقيل جدا (بيتومن) المنتج من الرمال الزيتية في كندا إلى سعر أقل من تسعة دولارات للبرميل. وتشير تقارير اقتصادية غربية إلى أنه رغم التكلفة العالية للنفط الصخري في كندا، إلا أن الشركات المنتجة لن تتوقف عن العمل لأن استثماراتها في الإنتاج أنفقت بالفعل وحتى لو كان السعر أقل من التكلفة فستظل تنتج ولا يوجد أمامها خيار آخر، حيث تسعى إلى تقليص الخسائر وتعويض انهيار الأسعار ولو جزئيا.
إنشرها

أضف تعليق