المشراق

وصية العربي عند الزواج

وصية العربي عند الزواج

لكل أمة وحضارة عادات وتقاليد، تتشابه فيما بينها أحيانا، وتختلف أحيانا أخرى. ولسائر الشعوب عادات في الزواج، ومن بينهم العرب، فقد كان العرب وما زال بعضهم يراعون عند اختيارهم الزوجة شرف الفضيلة، وهم الذين ينتفي بهم العار، ويحصل بهم الاستكثار. همهم طيب العرق وكرم المحتد، وشرف النسب والحسب. روي أن أكثم بن صيفي خطيب العرب الشهير، وأحد حكمائهم، نصح أولاده بعدم الزواج من النساء الجميلات لمجرد جمالهن فقط، دون النظر إلى أخلاقهن، وشرف الآباء والأجداد. وقال عالم اللغة ومؤسس علم النحو أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي لبنيه "قد أحسنت إليكم صغارا وكبارا، وقبل أن تولدوا، فقالوا له: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: اخترت لكم من الأمهات من لا تسبون بها". وأنشد الرياشي: فأول إحساني إليكم تخيري لماجدة الأعراق باد عطافها وقال آخر: لا تخطبن سوى كريمة معشر فالعرق دساس من الطرفين وفي الحديث الشريف قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - "تخيروا لنطفكم، ولا تضعوها إلا في الأكفاء". وشعر العرب وكلامهم في هذا الباب جاهلية وإسلاما لا يعد ولا يحصى. وقد درجوا على العمل بهذه الوصايا منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا. وفي ثقافتنا الشعبية نجد في أخبارهم وأشعارهم وأمثالهم ما عند أجدادنا الجاهليين والإسلاميين من الحرص على مصاهرة ذوي الأعراق الطيبة، والخلق الأصيل.. والأشعار والأخبار في هذا المجال كثيرة جدا، نقتصر منها على بعض النتف التي تدلنا على المقصود، وكما قيل "يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق". عرب وليدك عرب وليدك عربه النار من مقباسها وبنت الردي لا تأخذه لو هو طويل راسها هذه الأحدية من أشهر الأحديات في جزيرة العرب، قالها الشاعر يحث الرجال على اختيار الزوجة ذات الأصل الجيد، التي نشأت في أسرة كريمة، أهل مروءة وشجاعة وشهامة، وينصح الرجال بعدم الزواج من بنت الرجل الخامل الجبان الضعيف الذي لم يعرف بأفعال حميدة ولم يعرف ببسالة أو إقدام أو نخوة، وحتى لو كانت بنته جميلة، وطول الشعر "رأسها" في البيت كناية عن الجمال وليس المقصود به فقط المعنى الظاهر، حتى لو كانت جميلة فإنه ينصح بعدم الزواج منها، لما لذلك من تأثير سيئ في الأولاد. فاختيار النسب عند أبناء البادية والجزيرة وعند العرب بشكل عام كان في مقدمة اهتماماتهم، وهو مقدم على جمال الفتاة وعلى مالها وثروتها أو ثروة أسرتها. الشويعر ينصح بالزواج من عرجاء، ومن القصص المروية في هذا الجانب، ما روي أن الشاعر الشهير، والفيلسوف الحكيم حميدان الشويعر "راعي القصب"، حينما نزح هاربا من بلده بسبب قتل ابنه لأحد خصومه، ولجأ حميدان مع ابنه إلى أحد أمراء قرى نجد، فأجاره و"زبنه"، وتبين لحميدان مع مرور الأيام أن زعيم القرية الذي أجاره يعاني اضطهاد زعيم بلدة أخرى مجاورة، وهو أكثر قوة ونفوذا منه، لذلك يفرض عليه إتاوة يأخذها منه كل عام. وشكا هذا الزعيم ما يعانيه من تسلط الآخر عليه إلى حميدان الشويعر، فكانت نصيحة حميدان له أن يتزوج من فتاة حددها بالاسم، وهي من أسرة عرفوا بالشهامة والشجاعة وغيرها من الصفات الحميدة، فقال زعيم القرية، وكيف أتزوجها وهي عرجاء خالية من الجمال.. فقال له حميدان تزوجها كي تنجب لك أولادا، لا لجمالها، فأولادها هم من سيخلصونك من الاضطهاد الذي تعانيه، لأنهم سيكتسبون من صفات أخوالهم. وفعلا سمع الرجل نصيحة حميدان وتزوج تلك الفتاة العرجاء، وكان أن أنجبت له طفلين ما إن بلغا سن الفتوة حتى كان لهما الدور الأكبر في تخليص والدهما من تسلط غريمه. ونقيضا لهذه الحكاية تحضرني قصة حصلت في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، فقد رأى أحد زعماء القبائل من ابنه تصرفات لم تعجبه، ولم يكن يعرفها عن أسلافه، ولم يعتد عليها، فقال لابنه لما رأى سوء صنيعه، ولؤم تصرفه مع الآخرين، "حسبي الله على أمك غرتني بزينها!!" أو كلمة بهذا المعنى، مشيرا إلى أنه تزوج أمه لجمالها فقط، دون أن يكون لأسرتها حسب أصيل ومجد مؤثل.. وهذا ما جعل الولد يخرج بهذا الشكل ليس فيه رجولة ولا شهامة. وهذه العادة ما زال بعض العرب يتمسكون بها حتى الآن، خصوصا عند تزويج الأبناء، بينما لا نجد كل هذا الحرص مع بناتهم، حتى إنهم قالوا في المثل العامي "دور لولدك المرفعة، ودور لبنتك المشبعة". أي احرص على تزويج ولدك من فتاة أصيلة ترفع بأولادها الذين ستنجبهم من شأن ابنك، واحرص على تزويج ابنتك من رجل ميسور الحال لا تذوق معه الفقر والجوع. لا زينة ولا بنت رجال ومن أمثالهم في ذلك "لا زينة ولا بنت رجال".. والمعنى لا هي جميلة ولا هي بنت رجال متصفين بصفات الرجولة الحقة، فليس فيها ما يغري، ومثله ما ذكره الأبشيهي من أمثال العامة في زمانه في كتابه "المستظرف" والمثل يقول "لا أصل شريف ولا وجه ظريف" ولا يزال هذا المثل مستعملا في بلاد الشام حتى اليوم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق