العالم

ثقافة توصم بالعنف وأخرى تحتكر السِلم .. «النرجسية» داء الثقافات

ثقافة توصم بالعنف وأخرى تحتكر السِلم .. «النرجسية» داء الثقافات

شهدت العصور الحديثة تفاوتا ملحوظا بين الثقافات. ففي الوقت الذي غدت فيه الثقافة الغربية الحديثة السير في اتجاه تطوير رؤية علمية تقنية للعالم نتيجة التقدم التقني والعلمي والمعرفي الذي شهدته أوروبا ابتداء من مفصل القرنين الـ17 والـ18 أو ما يسمى العصر العلمي / التقني، مع ما صاحب ذلك من اكتساب قدرة وتفوق واكتساح للعالم وإنشاء مستعمرات وتحويل الدول المتأخرة تاريخيا إلى أسواق ومحميات ومصادر للثروات. وجدت هذه الأخيرة نفسها محكومة بأن تظل دولا مستعمرة لأمد طويل وتابعة اقتصاديا ومتأخرة ثقافيا. وهكذا أصبح التفاوت، بحسب المفكر المغربي محمد، سبيلا، على المستويات كافة هو القانون الأساسي السائد بين الفضاءات الثقافية، خاصة بين الثقافة الغربية (الأوروبية في مرحلة أولى والأمريكية في مرحلة ثانية) وبقية الفضاءات (الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الهندية والصينية واليابانية في مرحلة أولى). بل إن هذا التفاوت ارتبط عضويا بسيطرة القوي على الضعيف، والمتقدم على المتأخر ضمن علاقة مركبة تتضمن القبول والخنوع والاحتذاء كما تتضمن الرفض والتمرد والتحدي والارتداد إلى الماضي، والعودة إلى الذات حسب السياقات والظروف. وقد استفحلت هذه الوضعية منذ أواسط القرن الماضي مع تسارع الاكتشافات العلمية والتقنية ووتيرة التقدم المعرفي والتقني الهائل منذ الصعود إلى القمر (1961) واستكشاف الكواكب البعيدة والتعرف على بنية الكون اللانهائية وعمره وتمدده اللانهائي، ومنذ اكتشاف واستعمال القنبلة النووية وما تلاها من تقنيات عسكرية مهولة، ومنذ إنجاز المعجزات العلمية المذهلة المتمثلة في استبدال الأعضاء البشرية وتربية الكائن البشري خارج الرحم ونهاية بالاستنساخ، وفك شفرة كتاب الحياة أو الجينوم، مرورا بتمكين البكم من النطق والعميان من البصر، وإشفاء المقعدين من الشلل، وإضافة إلى الثورة المعرفية التواصلية الكبرى المتمثلة في إقامة المكتبة الكونية (الإنترنت) وغيرها من الاكتشافات العلمية المهولة … إلخ. فتسارع وتيرة التقدم العلمي والتقني قد يعقد العلاقة بين الثقافات أكثر إذ يطرح على الضعيف منها تحديات أكبر، ويشعرها بحتميات أو بقدرية التبعية، وربما الدونية، ويعسر عبور الهوة التاريخية الفاصلة بين الثقافات. وفي الوقت نفسه يزيد هذا التفاوت من مظاهر السيطرة وتصريف القوة ومن ضرورات التبعية، وعمق مشاعر الدونية لدى هذه الثقافات، خاصة أن منطق التقدم والتفوق هو منطق ورهان القوة والاستلحاق. مقابل ذلك بدأت تتنامى لدى الثقافات الأخرى مشاعر متناقضة: مشاعر اليأس، والدونية، لكن في الوقت نفسه مشاعر التعويض وأحاسيس التفوق الأخلاقي واعتبار أن التقدم الحقيقي هو التقدم الروحي لا التقدم التقني وغيرها من المشاعر البديلة وأحاسيس الاستعاضة. وهذه المشاعر المختلطة ليست ناتجة فقط عن مظاهر تصريف القوة والتفوق من الطرف الآخر الخارجي بل هي، من زاوية أخرى، نتيجة عملية التفكك الداخلي للبنية التقليدية الاقتصادية والسياسية والثقافية نتيجة تغلغل الحداثة التقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمع والثقافة التقليديين، ولانكسار المرايا التقليدية. وهكذا تنخرط الثقافات التقليدية في وضعية ملتبسة تراوح بين القبول والرفض، بين التفسير والتبرير، بين الاعتراف والاستيهام معبئة عقلها وخيالها الجماعي وثقافتها التي تصبح مستودعا حيا وحيويا لإنتاج آليات ثقافية دفاعية وهجومية معا. وبما أن نتائج التقدم العلمي والتقني والثقافي من طبيعتها الانتشار وغزو كل الآفاق، عبر الاستعمار في مرحلة أولى ثم عبر الإمبريالية وفي أفق العولمة في مراحل لاحقة، فإن مواجهة الآخر المتفق تصبح أيضا مواجهة داخلية وحوارا مع الداخل، لأن الحوار مع الآخر هو في الوقت نفسه حوار مع الذات. ومن هنا يصبح الحوار مع الثقافة الغربية حوارا ذا وجهين: حوار مع الآخر الخارجي، وحوار مع الآخر الداخلي المتمثل في مظاهر الحداثة التي اتخذت طابعا عضويا داخليا. بل الآليات الذهنية التبريرية، سواء من موقع القوة والهجوم أو من موقع الدفاع والتسويغ، يندغم فيها بشكل رفيع مواجهة الذات ومواجهة الآخر. إنها خطاب مزدوج يختلط فيه الخطاب الموجه إلى الذات والخطاب الموجه إلى الآخر، أو لعلهما وجهان للخطاب نفسه. خطاب التشدد والتطرف يعتمد آليات "فكرية" من صنفين: آليات فكرية تتعلق بالتوجه العام للوعي أو بما يمكن تسميته بالوعي المغلوط أو المقلوب (Fausse conscience) إواليات توجيهية كبرى مدعومة بتقنيات "فكرية" فرعية. المقومات الكبرى للوعي المغلوط هي تطوير وإذكاء خطاب النرجسية الثقافية بما يعنيه من تمجيد للذات وأمثلة لها Idéalisation وأسطرة لها على كافة المستويات. والوجه الآخر الملازم عضويا لهذه الإوالية هو تبخيس الآخر أو شيطنته إما باعتباره ضالا، وإما كافرا، أو آيلا للسقوط، أو منحرفا أخلاقيا، أو تائها ميتافيزيقيا. الإوالية الثالثة بجانب الموقف من الذات (الأمثلة) والموقف من الآخر (الشيطنة) هي الاحتماء بالماضي، واعتباره زمن اللجوء (temps refuge) مع أمثلته بدوره باعتباره أن العصر الذهبي في الماضي لا في المستقبل. وهذا الموقف من الماضي ينعكس على الموقف من الحاضر والموقف من المستقبل حيث يسود نوع من الذهول تجاه الحاضر ونوع من الخوف والقلق تجاه المستقبل. الإوالية الرابعة هي الخلط بين الديني والدنيوي كإوالية ضمنية لإضفاء طابع القدسية على ما ليس مقدسا أي على الكثير من الممارسات الأرضية للبشر، ومحاولة احتكار رضا الله، والخلط بين البشري والإلهي وبين الإسلام والمسلمين إيجابا بالتباهي (كرد على الخلط السلبي بالإدانة) ورفض النظرة النسبية. تنعدم بهذه المحددات الكبرى الموجهة للوعي التقليدي، إواليات تقنية تتحكم في التفكير المتطرف وتوجهه وأهمها التهويل والأدرمة dramatisation والترهيب من الله ومن الآخرة. وهذا الموقف ينعكس بشكل واضح في التشدد والأرثوذوكسية في الممارسات والأحكام وتضييق دائرة المسموح به وقضم كعكة الحياة إلى درجة يبدو معها أحيانا كأن هناك نوعا من التوجه نحو تحريم الحياة نفسها. ينعكس هذا الموقف كذلك في غلبة منطق التعسير على منطق التيسير، وإهمال المقاصد العميقة والتمسك بالمظاهر وبظاهر النص مع تعطيل للعقل والاجتهاد، وقلب الإواليات والاهتمام بالشكليات، وتغليب منطق الدعوي الأيديولوجي القائم على التحريم والتكفير كما بين الكاتب المصري أحمد كمال أبو المجد في دراسة قيمة له حول الخطاب الديني. وبالمقابل فإن الوعي الغربي، المزهو بذاته، وبانتصاراته، وبقوته يستخدم الإواليات الإيديولوجية نفسها المتمثلة أولا في أمثلة الذات، إذكاء مشاعر التفوق وادعاء ممارسة أدوار الهداية للتقدم والحضارة وثانيا في تغويل الآخر باعتباره حاملا للعنف والتخلف المزمنين، في إطار نظرة جوهرانية، سكونية ولا تاريخية واستعلائية تجاه الآخر، واعتبار الثقافات الأخرى، وعلى رأسها الإسلام، ثقافات تهدد القيم الكونية للثقافة الغربية. لم يستطع الغرب أن يجعل من ذاته نموذجا ثقافيا مثاليا يحتذى. فالأيديولوجيا التنويرية التي حملها في البداية لم تحل بينه وبين أن يمارس الاحتلال الاستعماري والهيمنة الإمبريالية والاستتباع العولمي بازدواجية معيارية واضحة ومن خلال نزعة برجماتية ومصلحية عمياء. وربما كانت مواقف الغرب العدائية والهجومية هي ما يولد أكثر ردود الفعل أصولية وراديكالية في الثقافات الأخرى وبخاصة في الثقافة العربية الإسلامية. إن المجتمعات التقليدية غالبا ما تولد ردود فعل تلقائية ضد التغلغل العنيف والكاسح للحداثة بقدر ما تولد في الوقت نفسه أشكالا من التكييف والتكيف وأنماط من المرونة والتقبل لكن العنف السياسي والتقني والعسكري والثقافي الذي يمارسه الغرب على باقي المجتمعات والثقافات يذكي ردود الفعل الرافضة ويصب الزيت على النار فتشتعل الأصوليات والراديكاليات شراسة. من الضروري الإقلاع عن الكثير من الأحكام المسبقة السلبية وأولها تحقير ثقافة الآخر واعتبارها ثقافة العنف، فالعنف موجود في كل الثقافات. بل إن كل ثقافة، من حيث هي منظومة رمزية متعددة الدلالات تتضمن ثقافة السلام وثقافة العنف، دعوات التسامح ودعوات التعصب، قيم الحوار وقيم الحرب، فقط الشروط السياقية الواقعية والأيديولوجية، ووضعية حامليها، ومدى اجتهادية وتأويلات نخبها هي التي تغلب هذا الجانب أو ذاك. إن الأصل في الثقافات هو سوء التفاهم وبخاصة بين الثقافات الكبرى التي لعبت أدوارا كبيرة في تاريخ البشرية وعلى رأسها الثقافتان العربية الإسلامية والثقافة المسيحية الغربية. فقد شهدت الثقافتان منافسات تاريخية كبرى منذ ظهور الإسلام وانتشاره السريع في آسيا وأوروبا ابتداء من القرن السابع الميلادي وإلى حدود القرن الثالث عشر حيث بدأ اختلال التوازن مع سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر، ومع إعلان نهاية الخلافة العثمانية في القرن العشرين. وقد كان هذا الوضع مشبعا بالأحكام القبلية السلبية وبصورة نمطية سلبية الآخر. لكن مع التقدم التقني وتيسر الأسفار البعيدة وأنماط التواصل المختلفة أصبح من المطروح على الثقافات أن تتخلص من الأحكام المسبقة السلبية، ومن الرؤى النرجسية الضيقة، وأن تتعرف على الثقافات الأخرى وتعترف بحقها في الوجود. كانت كل ثقافة من الثقافات الكلاسيكية تتخيل أنها هي الثقافة الأسمى وأن تراثها ورؤيتها للعالم هي الأمثل، وأن ثقافتها معطى كوني مطلق لا سبيل إلى نقده، وذلك لأنها تعيش داخلها وفي إطار سياجها وتصوراتها وقيمها، ولم تر أو تتعرف على غيرها. أما اليوم، فمع تواصل الثقافات وانفتاحها على بعضها لم يعد ثمة وجود لثقافة مطلقة، وهذا ما تعبر عنه فكرة النسبية التاريخية التي أبرزتها ونافحت عنها المدرسة التاريخانية الألمانية، بريادة هردر، منذ القرن الثامن عشر. وعلى الرغم من تفاوت الثقافات على خط التطور التاريخي فإنها مدعوة، في عصر التواصل هذا، إلى الحوار، وإلى استكمال إدراك الذات في مرآة الآخر، وإلى ممارسة نقد ذاتي يهدف إلى التخلص من الاستيهامات الذاتية ومن الأحكام المسبقة تجاه الآخر، وتغليب حوار المعنى على "حوار" القوة. ويختم سبيلا ورقته مشددا على أن الحوار بين الثقافات ليس مجرد حوار عقلاني بين أفكار، وليس مناظرة فكرية صرفة. إنه حوار حضاري شامل تغلب فيه آلية التنافس وتشحذ فيه كل أدوات الصراع، كما أنه يصبح حوارا أكثرا عسرا كلما كان التفاوت التاريخي أكبر بين ثقافتين تحملان رؤيتين مختلفتين للعالم: رؤية دينية ورؤية دنيوية، ثقافة متمركزة على الإنسان والعقل والتاريخ، وثقافة متمحورة حول المقدس والقدر، إنه بالتأكيد حوار صعب وتزيد من صعوبته الرهانات الأخرى الاقتصادية والسياسية والتقنية المرتبطة به والتي لا يمكن فصلها عنه.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم