ثقافة وفنون

لغة الضاد .. أزمة لسان أم إنسان؟

لغة الضاد .. أزمة لسان أم إنسان؟

لغة الضاد .. أزمة لسان أم إنسان؟

أضحى للعرب أخيرا يوم عالمي يحتفلون فيه بلغتهم، ويعود الفضل في إدراج لغة الضاد سادس لغة بجانب تلك المعتمدة أصلا في هيئة الأمم المتحدة (الإسبانية، الإنجليزية، الفرنسية، الروسية، الصينية) إلى اقتراح تقدمت به كل من السعودية والمغرب للمجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عام 1973. في 18 كانون الأول (ديسمبر) من تلك السنة، أقر المجلس التنفيذي لليونسكو اعتماد العربية لتكون لغة رسمية سادسة تتحدث بها الوفود العربية، وتصدر بها وثائق الأمم المتحدة، وأصبحت لغة رسمية في الجمعية العامة للأمم المتحدة والهيئات الفرعية التابعة لها بموجب القرار رقم 3190. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن المتحدثين بها كلغة أولى يبلغون حاليا 280 مليون نسمة، يضاف إليهم أزيد من 130 مليونا تعد لديهم لغة ثانية. التقديرات ذاتها تتوقع أن يرتفع العدد بحلول عام 2050 إلى نحو 650 مليون نسمة؛ أي ما يشكل نحو 7 في المائة من مجموع سكان العالم حين ذاك. بعيدا عن لغة الأرقام والإحصائيات، يتشح الغيورون بالسواد، ويردد لسان حالهم قول الشاعر: "إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجدا تليدا بأيدينا أضعناه". أي نعم، أين بنو يعرب بن قحطان اليوم مما تحدث عنه الأديب المغربي الراحل عبد الله كنون بقوله: "كان العرب الأولون يتكلمون العربية بالسليقة؛ أي بالمران والتعود من غير تلقين ولا تعليم، كما نتكلم نحن العامية اليوم. فيقيمون بها ألسنتهم، وتنشأ عندهم ملكة التعبير عن الأغراض المختلفة بكلام عربي مبين". إننا بصدد الحديث عن لغة أهم ميزة لتركيبتها - مقارنة بباقي اللغات - أنها لغة فعلية، تستهل جملها بالفعل؛ لأنها في الأصل لغة حركة وفعل وحياة وحيوية، لا جمود وخمول وركود مثلما عليه حالها وحال أبنائها الآن. وأهم ما في الجملة الاسم والفعل، غير أن الفعل يظل قوتها وسلاحها وعضلها، وقد يكون المعنى رصينا، وتكون الجملة متينة التركيب، ولكن يعيبها فعل رخو هزيل. فلا شك أن وقع جملة مثل "تقدمت السيارة مسرعة" عند القارئ أو السامع مختلف تماما عن وقع قولنا "اندفعت السيارة تسابق الريح"، وأيضا قولك "بحث الأمر وتقصاه" مقارنة بجملة "استجلى غوامضه وخاض عبابه". #2# في السياق ذاته، يقول الأديب محمود تيمور (معجم الحضارة) وهو يتحدث عن موضوع ألفاظ الحضارة – أي ألفاظ الحياة العامة – وموقف اللغة الفصحى منها: "إن الكثرة الغالبة من ألفاظ الشؤون العامة ما برحت أجنبية أو عامية، ومصداق ذلك أن نطوف بنظرنا في حجرة استقبال أو مطهى أو غير ذلك مما يتجلى على مسرح الأعين، فسيتبين لنا أن الكاتب إذا تشهى وصف ما يرى لم يستطع أن يقع على تسميات عربية دقيقة، فإن راج له الاسم العربي الدقيق منعه من استعماله أنه نافر مهجور". عودا إلى التاريخ نشير إلى بعض المنتخبات من الكلمات التي جاءت نتيجة لعلم السليقة اللغوية عند الأجيال الحديثة مثل: "الفنان" الذي أطلقه العرب الأولون على الحمار الوحشي لتفننه في العدو، ثم جاء العرب المحدثون فأطلقوه على الشخص الموهوب بهبة فنية من شعر أو تمثيل أو موسيقى. وقد حدث أن كثيرا من الأدباء تفادوا استعمالها، غير أن الكلمة فرضت نفسها ولا سيما أنها مخرجة على القواعد مثل "حداد" و"بناء" و"عطار"... وغير ذلك. الأمر ذاته سرى على كلمة "قديس" المأخوذة من القدس؛ بمعنى الطهر والنزاهة، ويبدو أن نصارى العرب هم من وضعوه بمنزلة الولي عند المسلمين، والكلمات كثيرة على وزنه مثل: سجيل ومريخ وقسيس ... وكلها كلمات معربة. فالقديس إذن لفظة محدثة، ومقيسة على ما ورد من هذا الوزن، وقد أقرها المعجم الوسيط. تعليقا على كلام محمد تيمور نجد الأديب العربي زكي مبارك يؤكد أن: "الذوق يختلف في تقدير مواطن الجمال من عصر إلى عصر، وهذا أمر طبيعي، ذلك أن لكل عصر مزاجه ومقاييسه وبيئاته التي تختلف عن سواه؛ فما كان يسيغه القدماء، ويعتبرونه مفرطا في الجمال قد لا نجده الآن كذلك، وبالقدر نفسه أو ربما أصبحنا الآن نجد الجمال في نقيضه تماما". أي نعم، فقد كان من أوصاف العرب قديما للمرأة عبارة "نؤوم الضحى" الدالة على الجمال والتدلل والإرهاف، غير أن هذه الصفة لم تعد مستحبة في نساء عصرنا اليوم. الأمر ذاته ينطبق على تعبير "حذوك النعل بالنعل" الذي استحسنه العرب قديما، حتى قال فيه شاعرهم عمر بن أبي ربيعة:" فلما تلاقينا عرفت الذي بها/ كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل". ويحدث أن تشهد الألفاظ والكلمات تغيرا ودورانا في المعنى من عصر إلى آخر، فكلمة "أحد" مثلا لها أكثر من استعمال. إذ جاء في اللغة أحد إليه يأحد أحدا بمعنى عهد إليه. وأحد الشيء أي وحده. وأحد الاثنين: صيرهما واحدا. وأحد العشرة بمعنى أضاف إليها واحدا فصارت أحد عشر. والأحد لفظ لنفي ما يذكر معه، فلا يستعمل إلا في الجحد أي الإنكار لما فيه من العموم، وفي القرآن "ولم يكن له كفوا أحد". والأحد: اليوم الذي بين السبت والإثنين. تميز الذهن العربي في تجديده للغة بإبلاء بالغ الاهتمام بتجديد صفات المسمى بمشتقات أي بأسماء لها نفس المعنى والدلالة. فمثلا كلمة "الأسد" مأخوذة من قولهم ساد، سيادة. ومن أسمائه: السيد أي من يحمي الديار، وساد مأخوذ من سد بمعنى أغلق حماه على الغير. والغضنفر: من غضن ونفر، فغضن تفيد التوتر، ونفر يفيد النفور. والهيثم: من هثم أي دقه وسحقه. الأمر نفسه بالنسبة لكلمة "الفرس" فرس من فر بمعنى طار، أي سريع العدو. وحصان: من حصن، فكأن صاحبه يتحصن به من الأعداء. وجواد: أي كريم بمعنى أنه يقدم على المخاطر ويبذل في الإقدام. ختاما نورد طرفة وقع فيها مجمع اللغة العربية إبان مراجعته للمفردات وتنقيحه معجم اللغة العربية، وهو عمل دوري يقوم به هذا المجمع، حيث احتار في تعريب بعض الكلمات الأجنبية، خصوصا أنها دالة على المراد بصورة لا تؤديه بها لفظة أخرى، ومنها: كلمة "بنسلين" التي لم تترجم ولم يوضع لها مقابل في اللغة العربية، وعمد المجمع إلى الاشتقاق منها فقيل بنسله، يبنسله، بنسلة، ومبنسل ومنبسل. وعلى الشاكلة نفسها جاءت كلمة "بستر" وهي مشتقة من اسم علم لويس باستير، واللفظة شائعة على الألسن ومكتوبة على زجاجات الحليب المبستر، وهي مما لا يمكن ترجمته، ويمكن أن نشتق منها فنقول: بستر، يبستر، بسترة، ومبستر، ولا يمكن أن تحل محلها لفظة عقم، لأن التعقيم هو قتل ما في الشيء من جراثيم، بأي وسيلة، في حين تحدث البسترة بغلي السائل حتى درجة حرارة معينة. إنها مجرد نسائم ننتقيها في جنان وبساتين اللغة العربية احتفاء باليوم العالمي لهذه اللغة، وقبله رسالة إلى كل من يتنكر لهذا اللسان مستنجدا بلسان أعجمي اعتبارا منه على أن لسان الضاد قاصر وعاجز عن التطور وإيصال مضامين الكلم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون