ثقافة وفنون

رقي الثقافة مرهون بـ «شروط» ثابتة لا بعوامل أو قوى

رقي الثقافة مرهون بـ «شروط» ثابتة لا بعوامل أو قوى

رقي الثقافة مرهون بـ «شروط» ثابتة لا بعوامل أو قوى

عنوان هذا الكتاب، بحسب ما يقدم له مترجمه الباحث والكاتب شكري عياد، يشعرنا بأن إليوت يلزم جانب الحذر في عرض آرائه، أو على الأقل يتظاهر بذلك. فهو لا يعدنا بنظرية عن الثقافة توضح علاقاتها وعوامل نموها أو تدهورها، بل لا يعدنا بمجرد تعريف لها، وإنما هي "ملاحظات نحو تعريف الثقافة". على أننا سندرك من مقدمة الكتاب أن هدف الكاتب أكبر مما يدل عليه العنوان. فهو يصرّح بأن السؤال الذي تضعه هذه المقالة هو: «هل هناك شروط ثابتة إذا تخلفت فليس لنا أن نتوقع قيام ثقافة راقية؟» ومعنى ذلك أنه يقدم لنا ـ بالفعل ـ نظرية، إن لم تكشف لنا عن عوامل نمو الثقافة فهي تكشف ـ على الأقل ـ عن بعض أسباب تدهورها. ولكننا نلاحظ أنه يتجنب استعمال تعبير مثل «العوامل الثقافية» أو «القوى الثقافية» في صدد الحديث عن قيام ثقافة راقية، مفضلا على هذين التعبيرين تعبيرا آخر، وهو «الشروط الثابتة». والفرق بين هذه التعبيرات الثلاثة واضح: فـ «شروط» قيام شيء ما، لا تستتبع بالضرورة قيام هذا الشيء، وإن كان امتناعها يستتبع امتناعه، بعكس «القوى» و«العوامل» التي يتحتم أن يترتب عليها أثر ما. واختيار الكاتب للكلمة الأولى في هذا السياق، وفقا لـ"عياد"، يدل على جملة أشياء: يدل أولا على أن الثقافة في نظره ليست نتاجا حتميا لقوى أو عوامل، ويدل ثانيا على أنه لا يحاول أن يقدم حلولا لمشكلات ثقافية قائمة فعلا، بل يحاول أن يرسم صورة للثقافة الراقية كما يتصورها. ويدل ثالثا على أنه يقصد إلى نقد أفكار معينة عن الثقافة، لا تلتئم مع هذه الصورة، أو لا تراعي تلك الشروط. #2# وهذه النزعات الثلاث تجعل أسلوب الكتاب مزيجا من الجدل والطوبوية، ونبرته نوعا من الهجوم الحذر، الذي يحاول أن يهدم حصون العدو من دون أن يكسب أرضا جديدة. على أن الكاتب شديد الوعي لنفسه، شديد الأمانة مع قارئه، فهو لا يزال بين الفينة والفينة يرد نفسه عن هجماته الجدلية وأحلامه الطوبوية جميعا إلى الموضوعية البحتة، محاولا أن يلتزم تحليل الواقع، وعلى الخصوص تحليل الألفاظ. ويحسن بالقارئ أن يتنبه من أول الأمر إلى أن كاتبنا يتنقل بين هذه المواقف الثلاثة: الموقف الجدلي، والموقف الطوبوي، والموقف الموضوعي التحليلي، لتتضح قيمة الأفكار في كل حالة. والأمر سهل عندما يخلص الكاتب إلى موقف من هذه المواقف. ولكنه قد يمزج بينها، فيكون على القارئ أن يتبين امتزاج الحقيقة الموضوعية، والخطأ الناتج عن افتراض لا مبرر له، في الفكرة الواحدة. والشعور العام الذي يخرج به القارئ عن المؤلف، يكتب عياد، هو أنه رجل يعيش في غير عالمه. وطوباه ليست في المستقبل بل في الماضي، في إنجلترا القرن الثامن عشر. وموقفه من التطور موقف جزع دائم (على الرغم من أنه يتحدث عن رقي الثقافة، ولا يبدو ساخطا حتى على الطابع الميكانيكي للحضارة الغربية الحديثة، خصوصا حين يتعلق الأمر «بفوائد» الاستعمار) فهو يقول ـ بعد ملاحظات موضوعية قيمة عن اختفاء بعض القيم في الحضارات المتطورة: «والحق أن الشيء الوحيد الذي نثق من الزمن بإحداثه أبدا هو الخسارة؛ أما الكسب أو التعويض فإنه يوشك أن يكون متصورا دائما، إلا أنه غير متيقن أبدا» ويقرر في موضع آخر أن «كل تطوير إيجابي فائق للثقافة هو دائما معجزة عندما يحدث». وإليوت يعبر بهذه الأفكار عن إيمانه الخاص، وهو مزيج متناقض من الإيمان بقدرة الأرستقراطية والإيمان بالخلاص المسيحي، وهذا الإيمان الخاص هو الذي يجعله يزج في جدله بمسلمات لا يلزم أن يسلمها له القارئ، بل يحسن به أن يقف منها دائما موقف الشك. والحق أن الكاتب يساعده على ذلك. ففضلا عن أسلوبه المليء بالاستدراك والاحتراس والجمل المعترضة، حيث يوحي إلى القارئ الفكرة وضدها في وقت واحد، ويعديه بموقف «المفكر الذي يفكر في تفكيره»، وهو الموقف المعقد الذي يتخذه في هذه المقالة، الذي يجعل لها صعوبة خاصة، وجاذبية خاصة أيضا، ففضلا عن ذلك نراه يصرح بأنه غير مبرأ من الميل إلى أفكاره السابقة. ويستطيع القارئ أن يتبين ثلاث أفكار رئيسة عن الثقافة تنتظم هذا الكتاب كله، ولها قيمتها الموضوعية الكبيرة وإن تأثر الكاتب في بعض تطبيقاتها بميوله الخاصة. أولى هذه الأفكار هي: فكرة الوحدة والتعدد في الأنماط الثقافية. فهناك ثقافة إنسانية تنتظم البشر جميعا، وهناك في الوقت نفسه ثقافة محلية تميز أهل قرية ما عن أهل القرية المجاورة لهم. وبين هذه النوعية الصغيرة وتلك الوحدة الشاملة هناك درجات متفاوتة من الوحدة، منها ما يجمع الإقليم أو القطر، ومنها ما يجمع الفئات المتماثلة في الأقطار المختلفة. ووجود الأنماط العامة وازدهارها ضروري لوجود الأنماط النوعية وازدهارها، كما أن العكس صحيح أيضا، لأن الاتصال بين الأنماط الثقافية المختلفة يثري كل واحد منها، في حين أن التراث الثقافي المشترك يزداد غنى بمساهمة الأنماط الثقافية المتنوعة فيه. وإليوت يتعمق في هذه الفكرة ويحرص على بيان أن الوحدة الثقافية يجب أن تكون وحدة عضوية لا مجرد حاصل جمع الثقافات النوعية الداخلة في تكوينها. والفكرة الثانية هي: فكرة الارتباط بين الثقافة والدين. وهي فكرة لا أحسب أن أحدا من الباحثين ينكرها، أو يستطيع إنكارها. إلا أن إليوت يؤكد هذا الارتباط تأكيدا يكاد يمحو الفرق بين الثقافة والدين، أو يجعلهما مترادفين في كثير من الأحيان. وكلام إليوت في هذا الموضوع ـ على عظم خطره ـ إشارات خالية من التحديد. ويقرر هو نفسه: «إن ما حاولت التلويح به من نظرة إلى الثقافة والدين لجد عسير حيث لا أحسبني أدركه أنا نفسي إلا لمحا، ولا أحسبني واقفا على جميع دلالاته. وهي أيضا نظرة تنطوي على خطر الوقوع في الخطأ في كل لحظة، لعدم التنبه إلى تغير في المعنى الذي يكون لكلتا الكلمتين حين تقتربان على هذا النحو، بصيرورتهما إلى معنى قد يكون لإحداهما بمفردها». وأهم من الخطر الذي يشير إليه إليوت، خطر الاعتراف بالإبهام وإعطاؤه المكانة نفسها التي نعطيها المسلمات أو القضايا الثابتة، حيث نأخذ في البناء عليه والاستنتاج منه، فكأنما نبني على أرض لا نعرف مدى صلابتها، أو أين الأجزاء الصلبة فيها إن كانت ثمة مثل هذه الأجزاء. والفكرة الثالثة هي: أن في الثقافة جانبا كبيرا غير واع، وتتصل بهذه الفكرة فكرة توارث الثقافة. ولا شك أننا إذا وسعنا مفهوم الثقافة ـ كما يريد إليوت ـ حيث تدل على «طريقة الحياة»، فيجب أن نسلم بهاتين الفكرتين. ولا بد لنا أن نوسع مفهوم الثقافة على هذا النحو إذا شئنا أن نفهم النشاط البشري على أنه كل مترابط الأجزاء، وهذا ما يفعله الأنثروبولوجيون. وحين نسلم بذلك الجانب غير الواعي في الثقافة نستطيع أن نفهم قيمة ارتباط أجزائها الواعية ـ من علم وفن وأدب ـ بالتراث غير الواعي المغمور في باطن الفرد وباطن الشعب، كما نستطيع أن ندرك العلاقة بين الجانبين، وما يكون بينهما أحيانا من تعارض ـ كتعارض الوعي واللاوعي في الفرد ـ وما يكون بينهما أحيانا أخرى من انسجام، حيث يستمد الأول من الثاني، ويجد الثاني تحقيقه واكتماله في الأول. وختاما يدعو شكري عياد قارئ هذا الكتاب إلى القراءة المتأنية، وسبر غور أفكاره، لتخليصها من تطبيقاتها الجزئية، التي يشوبها الغرض في كثير من الأحيان، كي يتحصل على جوهرها الصادق. هذا الكتاب قادر على أن يثير في الذهن أضعاف ما يحتويه .. وأنت الرابح إذن، ولو وجدت نفسك مع كاتبه على طرفي نقيض.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون