Author

هل أعطي التعليم أكثر من حقه؟

|
مستشار اقتصادي
لما تنتقل روح التعليم من الارتقاء المجتمعي إلى الحصول على وظيفة حكومية يصبح التعليم تدريجيا أكثر شكلية وتكون الوظيفة أقل إنتاجية. فنحن إذاً في نقطة ما بين مدى النزعة للارتقاء المعنوي والفكري والمادي من ناحية ودور التعليم كأحد مدخلات العملية الاقتصادية من ناحية أخرى. المسيرة التعليمية شهدت قفزات كبيرة على السلم الصفي والأكاديمي - عددا وعدة - في إعداد المعلمين والطلاب ورفع رواتب المعلمين وارتفاع ميزانية التعليم ليس حجما فقط ولكن كنسبة من الدخل القومي خاصة في السنوات الأخيرة وبالأخص بعد تزايد نفقات البعثات في السنوات العشر الأخيرة وتكاثر الجامعات وتزايد الجامعات الخاصة بمساعدة حكومية مؤثرة، ولكن يقابل ذلك ضعف في النمو الاقتصادي الحقيقي وضعف أكثر في الإنتاجية وتزايد بطالة هؤلاء وارتفاع سقف توقعاتهم، بل لعل هناك علاقة عكسية بين الإنتاجية وتزايد المتعلمين. لن تجد مهتما بالتنمية وإلا سرعان ما يذكرك بالحاجة إلى ضرورة التعليم ودوره الأساس وكأنه اكتشف سببا جديدا يعوق التطور، ولكن في المقابل حين تذكرة بالجدلية أعلاه تبدأ في فتح جرح وتداعيات في غالبها حتى بعض المثقفين لا يريدون الدخول فيها. تتمخض الجدلية بين ضرورة التعليم التي ليس هناك خلاف عليها وبين دور التعليم كأحد مدخلات العملية الإنتاجية. جدلية قد تكون مقبولة للبعض ولكن تفاصيلها غير مقبولة للأغلبية. حين يبدأ احتساب دور التعليم في العملية الإنتاجية يبدأ الغلط والخلط بين ضرورة التعليم وحتى القيمة الإنسانية للتعليم وبين توظيف التعليم إنتاجيا بما في ذلك المسألة الشخصية والعائلية واختبارات الكفاءة، سأذكر بعض الأمثلة تباعا؛ هذه الجدلية تكفي لاستمرار النقاش الحيوي حول دور التعليم والخيارات التنموية. أعتقد أن التعليم بالمفهوم التقليدي أعطي أكثر من حقه وحان الوقت لمراجعة صريحة، النموذج العائد اليوم يتماشى مع نموذج اقتصادي استهلك ويبدأ ينهش في الجسم المجتمعي، الرسالة التي وصلت لقطاعات كثيرة من المجتمع أن الشهادة أهم من المعرفة وأن الترقية إما حق عام أو من خلال علاقة "شللية". لا أحد يرغب في التفاصيل المحرجة؛ فمثلا ومن خلال حديثي مع بعض مسؤولي التعليم العالي يعرفون أن نصف طلاب الجامعات في المكان غير المناسب؛ لأن كل الدول الناجحة تستقبل الجامعات نحو 40 في المائة من خريجي الجامعات، بينما لدينا أكثر من 90 في المائة. فنحو نصف طلاب الجامعات غير مؤهلين لتحدّ أكاديمي عال على قدر من الكفاءة. إذ إن استحقاقا تنافسيا سيبعد الآلاف عن الجامعات، ولا تقف الأمور هنا، بل إن ساعدنا في إيجاد كليات خاصة للقانون والطب وغيرها لمن لم يجد مقعدا سهل الحصول، في تهرب واضح من المسألة. وامتد التسامح إلى البعثات بدرجة مخيفة؛ إذ إن البعثات عادة للحصول على تعليم أكثر تحديا ولسد فراغ علمي وبحثي، ولكن لا يدار البرنامج بهذه الروح أو النزعة. أغلب الطلاب يدرسون تخصصات اجتماعية وإدارية في جامعات من الصف الثالث أو الرابع وأحيانا أقل، وقد امتد التساهل تدريجيا إلى النخبة، التساهل في التعليم والتنمية جعلهما يبتعدان تدريجيا. ما الحل؟ لما تترك مسائل مركبة تتراكم تصبح أكثر تعقيدا ولكنها عدم المحاولة والتعامل معها تدريجيا يهدد المجتمع. النظرة العاطفية قد تكون خيرة ولكنها تصيبنا في مقتل تدريجيا، فهل نحن مستعدون للتعامل مع واقع التعليم العالي والقفز حول التسطيح الذي يجري في أكثر من مدار؟ هل من الممكن مراجعة سياسة الاستقدام بجعل التعليم الفني خيارا حقيقيا وليس مجرد تكميلي أو ردة فعل؟ العلاقة بين الاستقدام والتعليم الفني مباشرة والعلاقة بين قبول 90 في المائة في الجامعات والتعليم الفني عضوية.. هل نستطيع مراجعة خريجي الجامعات البحثية من النخب بما في ذلك من يديرون العملية التعليمية؟ هل لنا مراجعة برنامج البعثات في ظل تكلفته العالية دون مردود مناسب؟ البحث عن إجابات موضوعية سيساعد كثيرا ليس في جودة التعليم فقط وإنما ربطه الوثيق بحراك مجتمعي يهدف إلى التنمية والنمو.
إنشرها