Author

بشاير .. قصة كفاح

|
من داخل بيت شعبي متواضع في حي السلامة بالطائف حققت "بشاير عبد الله" واحدة من أجمل قصص الكفاح، ولو كان لدينا جوائز للمكافحين والمكافحات لنالتها بجدارة "بشاير" الفتاة التي لا تتجاوز 23 عاما حاليا. هي تستحق أكثر من وسام وأكثر من جائزة، وفي كفاحها دروس عظيمة لأولئك المهزومين الذين لا يتوقفون عن الاحتجاج بالظروف والعقبات ليختاروا الحياة على الهامش. بدأت "بشاير" حياتها في منزل والدها ذي الغرفتين فقط وسط سبعة من الإخوة والأخوات في ظروف مادية صعبة. تحملت "بشاير" بحكم أنها الابنة الكبرى الحمل الأكبر، ورغم ذكائها إلا إنها لم تستطع الصمود بشكل منتظم في دراستها، ففي أغلب الأيام تختار الغياب عن الدراسة بسبب نقص الدفاتر والأقلام، وما تواجهه من عقاب ولوم المعلمات، وإحراج الزميلات وسخريتهن، لكنها اجتازت بصعوبة بالغة المرحلة الابتدائية والمتوسطة. ظلت طوال طفولتها تدرس في الصباح وتساعد أمها في بيع بعض المنتجات البسيطة من مهنة الخياطة، وأحيانا بالعمل في مساعدة بعض الجارات بمقابل مادي للتغلب على شظف العيش وتوفير ما يلزم من مستلزمات المدرسة. حين وصلت "بشاير" إلى الصف الثاني الثانوي قرر الأب تزويجها للخاطب الذي ظل يتردد عليهم. رغم رفضها موضوع الزواج إلا أنها وافقت أخيرا حين عرفت أن جزءا من المهر ستستفيد منه الأسرة في الانتقال إلى شقة أفضل تخلصهم من معاناة "البيت الشعبي" الذي كان ملاذا للحشرات والزواحف وما سببه لهم من متاعب متكررة في موسم الأمطار حين تخر عليهم المياه وتتلف ملابسهم وكتبهم. بعد أيام قليلة من الزواج اكتشفت "بشاير" أنها في وضع مأساوي يصعب الخلاص منه، فالزوج الجديد شخص غير متزن. وبدأ في شتمها وضربها ومعاملتها كالخادمة، وابتدأت معها معاناة جديدة لم يستطع أحد أن ينقذها منها. عادت للأب ولكنه رفض طلاقها على أمل إصلاح الزوج، وعادت بشاير بالقوة إلى زوجها ليعود إلى أساليبه القديمة ولكن بوحشية أكثر. اضطرت "بشاير" للهروب من تعذيب زوجها أكثر من مرة تارة إلى بيت الخالة، وتارة إلى بيت الجدة، ثم توجهت بمفردها إلى المحكمة لطلب الطلاق، وبدأت ماراثونا جديدا اصطدمت معه باشتراط القضاة حضور ولي الأمر، وبقيت تتردد على المحكمة من قاض إلى قاض حتى تم قبول دعواها أخيرا، بعد أن أصبحت معروفة لديهم، واتضحت لهم عدالة قضيتها. بعد مماطلات طويلة استمرت ثلاثة أعوام كانت معها "بشاير" تركض بنفسها بين دوائر الشرطة، والإمارة، والمحكمة، والمستشفيات لإجبار زوجها على الحضور، حضر الزوج وأصر على استرداد نصف المهر كشرط للطلاق. ولأنها لا تملك شيئا اضطرت بشاير للعمل في الصباح داخل مقصف مدرسي للبنات، وفي المساء تقوم بطبخ بعض المنتجات من الحلويات والسمبوسك وخبز التنور لتبيعها في شارع "عكاظ" بالطائف، وبعد أن تنتهي تعود إلى بيت أبيها لتساعد أمها في أعمال المنزل. خلال أقل من عام استطاعت فعلا جمع نصف المهر وأعادته إلى الزوج الذي بادر بالطلاق بعد تعنت طويل، وقد كانت بفعل الضغوط تشكو كثيرا من الآلام الجسدية، ووصل وزنها إلى 36 كيلوجراما فقط. عادت "بشاير" إلى البيت وسط سخط الأب وشفقة الأم وإخوة صغار ليس لديهم القدرة على مساعدتها بشيء، فعادت إلى عشقها القديم لتكمل دراسة المرحلة الثانوية، ومن ثم الالتحاق بأحد المعاهد المتخصصة في التقنية لتدرس التخصص الذي أحبته وعشقته وهو "البرمجة". خلال دراستها لم تنقطع "بشاير" عن العمل لتأمين الرسوم الدراسية فقد ظلت تدرس في الصباح وتعمل في المساء في مبسطها تبيع المأكولات، وكثيرا ما تعرضت لمصادرة بضاعتها من قبل مندوب البلديات، وأحيانا مضايقات بعض الفضوليين، ولكنه الإصرار الذي لا توقفه العقبات لتحصل على الدبلوم العالي في "البرمجة" بتفوق واضح على كل زميلاتها. بعد تخرجها وتمكنها من اكتساب مهارات متقدمة في "البرمجة وتقنية المعلومات "حصلت "بشاير" على فرصة عمل في أحد المستوصفات الخاصة ثم قررت أن تدرس دبلوما آخر في "التصميم والإعلان" بعد أن رأت فيه مجالا جديدا لإبداعها واستطاعت أن تنهيه بتفوق واضح، واختارت مرحلة جديدة من حياتها، حيث استقالت وبدأت العمل الحر في مجال "التصميم والإعلان" من خلال افتتاح "متجرها الإلكتروني" الذي حقق نجاحا جيدا منذ الأشهر الأولى بفضل ذكائها وقدرتها على اختيار التصاميم الذكية وغير التقليدية وسط سوق ضخمة للإعلان والترويج ولكنها تزدحم بالتقليد وتفتقد الإبداع. تدير "بشاير" من خلال غرفة صغيرة في منزلها متجرها الواعد وتقدم جملة من الأعمال في هذا المجال، ولا يكاد هاتفها يتوقف عن الرنين لطلب مزيد من المنتجات وبطموح لا يتوقف، فعين على العمل والإبداع وأخرى على الفرص الدراسية الجامعية حيث تحلم بالحصول على شهادة عليا في مجال تخصصها لتهديها لأمها التي ظلت بجانبها في أصعب الظروف.
إنشرها