Author

السعودية .. والموقف البليغ

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"لنحاول تعليم الكرم والإيثار، لأننا ولدنا أنانيين" ريتشارد داوكينز كاتب وعالم بريطاني متخصص في علم السلوك قبل فترة قامت إحدى الجهات الخيرية العربية بالتبرع بكميات من الخبز للاجئين السوريين في مخيم الزعتري. ولأن هذه المادة بالتحديد حساسة عاطفيا ومعيشيا، فقد وجدت أن التقاط صور ممثلي الجهة الخيرية هذه مع ربطات الخبز وعدد من اللاجئين حولهم، بمنزلة عدوان على اللاجئ وعلى الهدف السامي للتبرع أصلا. وحتى لو كانت مادة أخرى معيشية، فإن تسويق المتبرع بهذه الطريقة، يعد من الناحية الأدبية وحتى الأخلاقية مشينا، وفي أحسن الأحوال، غير لائق لا إنسانيا ولا اجتماعيا ولا خيريا، كما أنه يستخدم بصورة مباشرة المتلقي المحتاج أداة دعائية، يُعتقد أنها عالية الجودة، لكنها في الواقع تؤثر (من حيث المبدأ) سلبا في مفاهيم الجهة المتبرعة. ورغم أن من حق الجهات المتبرعة أن تعلن للعالم حجم تبرعاتها ومساعداتها ودعمها للجهات المحتاجة، لكن عليها أن تقوم بإعلانها هذا، بأقل "الإهانات" غير المباشرة للمتلقي. والأهم عليها ألا تستخدمه مادة إعلانية دعائية مريبة. هذا المفهوم ينطبق على الدول نفسها التي تسهم بالمعونات والمساعدات. تجد بلدانا تقدم بالفعل الكثير من المساعدات، لكن وجهها الأخلاقي والإنساني يخبو تحت أضواء التسويق الدعائي لها. وقد تحظى بإطراء أو إشادة من هنا وهناك، ولكنها لن تحصل عليها صادقة صافية من الجهات التي تتلقى المساعدات. فهذه الجهات ليست محتاجة تلقائيا، ولكنها وصلت إلى هذه الصفة، لأن مجرمين يحكمون بلدانها، أرادوا لها التشرد واللجوء والنزوح. المهم لهؤلاء المجرمين أن يبقوا في السلطة إلى الأبد، بصرف النظر عن أي ظروف شعبية. للسعودية مفهومها الخاص بمسألة المعونات والمساعدات واستقبال اللاجئين، وهو يقوم على ما يمكن وصفه بـ "الموقف البليغ"، أو ترك الأعمال الإنسانية والخيرية والواجبة تتحدث عن نفسها، أو لنعمل لمصلحة من يحتاج إلينا، ولا يهم من يعرف أو لا يعرف، أو ما يهمنا هو أن تنجز الأعمال الإنسانية التي نقوم بها على أكمل وجه، وأي شيء آخر ليس سوى مجرد تفاصيل بعضها ليس مهما. إنه مفهوم مبني على معايير إنسانية وإيمانية. فحتى عندما تفاقمت أزمة اللاجئين والنازحين السوريين على مستوى العالم وتحديدا في القارة الأوروبية، ظلت السعودية صامتة حيال ما قامت به في هذا المجال، لأن الصمت المؤثر أبلغ صدى من الفقاعات. وفيما كان بعض الدول (ولاسيما الأوروبية) تحصي أنفاس اللاجئين السوريين (وغير السوريين) فيها، كانت السعودية قد أتمت استقبال ما يزيد على 2.5 مليون سوري في غضون أربع سنوات تقريبا. هذا ليس إطراء للسعودية، لأن الأرقام تتحدث عن نفسها في الدرجة الأولى، لكن في الدرجة التي تسبق حتى الأولى، هناك كيفية التعامل مع السوريين في السعودية، والتعاطي مع قضيتهم. وهذه النقطة بالتحديد لها أهمية خاصة، لأنها ترتبط بوضعية السوريين المعيشية في المملكة. فهم ليسوا لاجئين بمعايير السعودية، لأنهم ببساطة أشقاء. كما أنهم لا يقومون في الخيام أو مراكز الإيواء، بل في أماكن سكن لائقة تتناسب مع وضعيتهم كأشقاء ضيوف. دون أن ننسى، أن الخدمات متوافرة لهؤلاء كما هي متوافرة لأي مواطن سعودي، من صحة وتعليم، بما في ذلك معادلة الشهادات والصفوف المدرسية، بما يكفل دخول مضمون لأي تلميذ أو طالب إلى مدارس المملكة. وفي الواقع، تقوم المملكة بدور كبير على صعيد دعم المنظمات والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة المتخصصة برعاية اللاجئين والنازحين، فضلا عن دعمها المباشر أو من خلال منظماتها الخيرية، للبلدان التي تحتضن نسبة من اللاجئين السوريين، ولاسيما لبنان والأردن والعراق وتركيا. وفي السنوات الماضية، أقدمت السعودية على نجدة بعض البرامج الإغاثية التي تعرضت لنقص التمويل، وكلها صبت في مصلحة اللاجئين. ولعل من أهم المعايير السامية فعلا رفض السعودية توصيف اللاجئين، والتشديد على أن السوريين الموجودين في المملكة ليسوا سوى أشقاء. إن المسألة عبارة عن خليط مادي وعاطفي وإنساني وأخلاقي وحقوقي، والحفاظ على هذا الخليط بأعلى مستوى من الجودة والرقي، يظل مضموناً في السعودية، في حين ليس الأمر كذلك في عدد من البلدان أو الجهات التي تحب أن تسوق عملية تخيف الآلام. لولا بعض الغمز واللمز غير البريء من جانب بعض الجهات، لما اهتمت الرياض بالإعلان عن عدد السوريين الموجودين على أراضيها. لكن من الناحية العملية، يجب أن يعرف العالم هذه الحقائق في المملكة. فحتى الذين يتابعون عن قرب دور السعودية الإنساني، لم يكونوا يعرفون هذا العدد، الذي فاق إجمالي أعداد السوريين الذين استطاعوا الوصول إلى بعض البلدان الأوروبية في السنوات التي أعقبت اندلاع الثورة الشعبية العارمة في سورية ضد سفاحها بشار الأسد. من حق أي جهة تقوم بدور إنساني أن تعلن تفاصيل عملها. لكن في المملكة يعد العمل الإنساني واجبا، والواجب عادة لا يتم الإعلان عنه أو تسويقه.
إنشرها