Author

ندرِّسهم .. لكن هل يتعلمون؟

|
التدريس في التعليم العام والعالي فن ومهارة وهواية قبل أن يكون وظيفة للتكسب. فعملية التعليم عملية تواصل إنساني في المقام الأول يحدث فيها المعلم تغييرا في فكر وميول وسلوك الطالب وليس فقط زيادة حصيلته من المعلومات. إذ إن الطالب يجب أن يستشعر المعلومة وتكون جزءا من ذاته ملما بمقاصدها، فضلا عن فهمها والقناعة بها ومعرفة تطبيقاتها. وهذا يستدعي من المعلم تقديم المعلومة بقالب مشوق وممتع وسلس بقصد تحبيب الطالب في التعلم وتحفيزه نحو البحث والاستزادة من المعلومات واستكشاف العالم من حوله. ولذا فإن علاقة المعلم بالطلاب تقع في صلب العملية التعليمية وتتطلب أن تكون تفاعلية يمكن فيها الطالب من إبداء رأيه بشفافية يصل حد مناقشة أطروحة الأستاذ برأي مغاير وفيه نوع من التحدي الفكري. في هذا النهج تكون الدافعية للتعلم داخلية، إذ إن هناك نوعين من الدافعية للتعلم ظاهري وداخلي. وأخشى أن معظم الطلاب لديهم دافعية ظاهرية أي التعلم من أجل الحصول على أعلى درجة ممكنة وهذا النوع من الدافعية للتعلم يعتمد على المذاكرة بحفظ المعلومات عن ظهر قلب من أجل الامتحان. وقد يقوم الطالب بحفظ المعلومة دون إدراك معانيها ودون متعة همه التهام صفحات الكتاب تصويرا في مخيلته وليس داخل وجدانه. هكذا تكون عملية التعلم عملية شاقة غير محببة لنفوس الطلاب لأنها غريبة عن ذواتهم لا يتملكونها ولا يشاركون في البحث عنها وتحصيلها. وعندما تفرض المعلومة فرضا على الطلاب دون حول منهم ولا قوة فكأنما نطلب منهم وضع الكتب فوق رؤوسهم مدة الدراسة وهو أمر شاق بل يكاد يكون أمرا مستحيلا. لذا ينفرون من التعلم ويكرهون التعليم لأنهم يساقون إليه سوقا وليس جذبا وتشويقا وتحفيزا. وهذا في رأيي أكبر خطأ اقترفناه وأكبر مصيبة حلت في تعليمنا يوم أن جعلنا الطلاب يكرهون التعلم وجعلنا عملية التعلم مضنية وكئيبة ووقتية لا تمت للواقع بصلة وإنما مجرد حفظ لمعلومات ميتة ثقيلة الوزن تتعب حاملها. لقد حان الوقت لجعل التعليم أكثر واقعية في عرض المعلومات وطريقة التدريس وبيئة القاعة الدراسية. إنها فلسفة تعليم تنطلق من النظر للطلاب كناضجين وأصحاب رأي وتفكير نقدي حتى وإن كانت أعمارهم صغيرة وأجسادهم نحيلة. هذا النهج يستلزم النظر إلى التعليم على أنه تربية في المقام الأول يستهدف إحداث تغيير في تفكير وميول وسلوك الطالب للأفضل وليس مجرد حشو ذهنه بالمعلومات كيفما اتفق. هذا يتطلب دائرة تعلم مزدوجة أي أنه لا يكفي أن يمنح الطالب حق إبداء الرأي حيال ما يطرحه المعلم، بل يتعدى إلى مساءلته لماذا يطرح ذلك الرأي أو تلك المعلومة ابتداء. وهذه فلسفة لا يستطيع فهمها أو تطبيقها كثير من الأساتذة في التعليم العام والعالي في ظل الثقافة السلطوية وبحث المعلم عن احترام مركزه الوظيفي وليس مكانته الأدبية وحمل الطلاب على احترامه لذاته علما وخلقا. ولا عجب أن يكون الطلاب صما عميا لا يتكلمون وإن ناقشوا فيتحرون الرأي الذي يرضي المعلم. هذه القولبة لتفكير الطلاب تعطل تفكيرهم الإبداعي وتفقدهم متعة التعلم الفطري والأخطر أن تجعل عملية التعلم وقتية لغرض الحصول على الشهادة ليس إلا. ولا غرابة في ظل ما يعيشه الطلاب من غربة في قاعات التدريس أن يقوموا بعد الامتحانات النهائية بتمزيق الكتب كردة فعل انتقامية على العملية التعليمية وتعبيرا عن معاناتهم والحبس الفكري والنفسي الذي خاضوا تجربته الأليمة. وهي نتيجة حتمية في أن أولئك الطلاب لديهم طاقات كبيرة لم تهيأ لها الفرصة في استثمارها وتنميتها وتشجيعها في الاتجاه وبالأسلوب الصحيحين. وليعلم الجميع أن تلك التصرفات غير السوية للطلاب إنما هي انعكاس لطريقة تدريسنا وما نتوقعه منهم أو بشكل أوضح فشلنا في تدريسهم. فالطلاب يتصرفون حسبما نتوقع منهم، فإن ظننا بهم خيرا كان ذلك منطلقا إيجابيا في تطوير عملية تعليمية تعتمد على الثقة والاحترام المتبادل وحرية التعبير والنقاش التحليلي والانفتاح على الموضوعات الحياتية. هكذا فقط نكسب انتباه الطلاب ونجعلهم على درجة أكبر من الوعي والمسؤولية. ارتكز الحديث هنا عن المعلم لأنه هو من يبعث الحياة في مقومات العملية التعليمية ولأنه المؤثر الرئيس في فكر الطالب الذي من خلاله يرى ويفسر ما حوله. ولذا تظل مهنة التعليم من أخطر وأهم المهن رغم عدم إعطائها حقها من الاهتمام ليس المالي والمادي فحسب وإنما حقها المهني. فمن المفترض ألا يدخل مهنة التعليم إلا من يمتلك المهارة والرغبة وبعد عملية تمحيص قبل الدخول وتقييم مستمر بعد الدخول في مهنة التعليم، وألا يحول التعليم إلى مجرد وظيفة بيروقراطية لاحتضان الطلاب فترة زمنية من اليوم. ومتى تم التحول إلى التعلم الإبداعي فذاك موعد انطلاقة التنمية الوطنية الحقيقية نحو آفاق أوسع ومستويات أعلى من التحضر الاجتماعي والتقدم الصناعي والقوة الاقتصادية. ولكن إلى ذلك الحين يبقى السؤال التقريري: ندرسهم .. لكن هل يتعلمون؟
إنشرها