Author

الآباء والتطوير المهني

|
نتجه اليوم نحو عصر جديد من الوعي المهني، وعلى الرغم من تراكم التحديات المرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل التميز المهني أقرب إلى حالات محدودة توافق لديها التحفيز والدعم، إلا أن هناك عديدا من المبادرات الإيجابية التي تهدف إلى خلق بيئة وثقافة مهنية واعدة. ولكن، لا تزال هناك حلقة مفقودة؛ مهما كانت الجهود التي يقوم بها عديد من الجهات مضاعفة ومؤثرة، إلا أنها لن تكتمل إلا بتأسيس صلب لثقافة العمل والإنتاجية وبناء قوي للوعي المهني المبكر. وهذا أمر مرهون باحتواء العناصر التربوية والأسرية لمثل هذه الجوانب. المشكلة أن التأثيرات المحيطة بالشاب لا تزال معاكسة للواقع المأمول، فكثير من الآباء ما زال يمارس ضغوطه في تقرير مصير الأبناء ودفعهم نحو خيارات مهنية منتهية الصلاحية. هناك من يبحث لابنه عن وظيفة ضعيفة الحوافز بدعوى الاستقرار، وآخر يعبر عن استغلال جهات العمل للشباب بسبب الدوام الأطول الذي لم يعتد عليه. وربما وجد في بحث الابن واجتهاده بزيارة الفعاليات المهنية وبناء العلاقات المثمرة مجرد تضييع للوقت، لأن الأمر عنده لا يعدو إلا مسألة نصيب يناله أو لا يناله، خصوصا أن السبب الأوحد للنجاح المهني في نظره هو إكمال مسيرته الدراسية، بغض النظر عن جودة السمات الشخصية والمهنية المؤثرة. على الرغم من دفع الجميع أبناءهم نحو الاستمرار في التعلم ومساعدتهم بإخلاص على ذلك، نجد هناك من يمنع أبناءه من ممارسة الأنشطة اللامنهجية بحجة أنها تضيع الوقت. أو ربما يقلل من أهمية الهوايات والاهتمامات الجديدة التي تبني شخصيته وتفتح له أبوابا متنوعة في بناء المهارات وتعزيز القدرات. المشكلة ترتبط بتنمية الوعي التربوي المهني لدى الآباء، وهو أمر بالغ الأهمية يستحق التركيز على المستوى الوطني ويتطلب تأسيس برامج متنوعة تستوعبها مختلف القنوات القادرة على المساعدة، مثل التعليم والإعلام. لن يشكك أحد في دور الأسر والمدرسة والمجتمع في تنمية وتطوير الوعي المهني لدى الأبناء. ولكن السؤال المهم: من الذي يدفع بتفعيل هذا الدور؟ وما الذي يحصل فعليا في أرض الواقع؟ أعتقد أن الفجوة كبيرة جدا ولا تضيق بعد بالمعدل المطلوب. على سبيل المثال، تعد هذه الفجوة أحد أكبر المهددات الحالية لجهود وزارة العمل وصندوق الموارد البشرية. مهما كانت البرامج التي يجدها خريج الثانوية رائعة ومحفزة فلن تكون بالقدر المطلوب من الفاعلية إذا لم تنمَّ لديه الثقافة المهنية الإيجابية من عمر مبكر. نسمع كذلك بأن وزارة التعليم بدأت فعليا في التخطيط لتطوير الجوانب المهنية في أدوار الإرشاد والتوجيه داخل مدارسها، لكن لا نعرف متى ستبدأ البرامج في الانتشار والتأثير الفعلي. ويبقى الدور الضائع الذي يجب أن يقوم به الآباء إلى جانب المدرسة، وهذا ما يصنع النشاز الحالي في تكامل أدوار الأسرة والمدرسة والمجتمع. نحن نفتقد القدرة على لفت انتباه الآباء إلى سرعة تغير الظروف المهنية والاقتصادية التي يعيش نتائجها الأبناء كل يوم. ونجد أن من يبحث منهم عن المصادر في هذا المجال لن يجد حتى دليلا إرشاديا للتربية المهنية المبكرة. بل يواجه الآباء المعضلات وربما يضطرون إلى حشر مصائر أبنائهم إذا وصلوا إلى مراحل اتخاذ القرار. يحتاج بعض الآباء كذلك إلى تطوير مهارات التوجيه والإرشاد لاستخدامها داخل الأسرة. نرى أن الابن يجد صعوبة في الاستعانة بوالديه عند مواجهة تحدياته لأن مستوى التواصل لا يشعره بالارتياح، فهو يأخذ كثيرا من الاحترازات عند مناقشة أموره المستقبلية واستعداداته الحالية لها. تطوير مهارات التوجيه والإرشاد وأساليب كسب الثقة وتفعيل العلاقة الثنائية المؤثرة بين الأب ووالده محفز أكيد للتربية المهنية المبكرة، هناك للأسف من لا يعتقد أساسا بوجوب الاهتمام بمثل هذه الأمور، ولا يجد من يلفت انتباهه إلى قصوره في هذا الجانب. يعجز كذلك كثير من الآباء عن معرفة تطورات السوق وأخبار المهن، فمصادر المعلومات لدى الأب محدودة بعدد قليل من الجلساء وربما يحدد مصير ابنه بالاستناد إلى معلومة ناقصة أو خاطئة. توعية الأب بمصادر المعلومات السليمة وتنمية ثقافته المهنية وقدراته الإرشادية تتحول تلقائيا إلى وعي مهني مبكر عند الابن. ربما تصنع بعض المقاطع المرئية المميزة والمواد الإرشادية سريعة الانتشار أثرا أفضل من تلك البرامج التي طال انتظارها. في كل الأحوال، يتطلب الواقع الراهن جهودا مباشرة تحقق النجاح السريع وجهودا استراتيجية تعالج هذه المشكلة على المدى الطويل، وهذا ما يجب أن ترتكز عليه الاستراتيجيات والمبادرات الوطنية للتطوير المهني، حتى لا يضيع مزيد من الوقت ولا يتخذ مزيد من الاختيارات المتواضعة التي تظلم أصحابها.
إنشرها