ثقافة وفنون

ماذا لو تمكنا «جراحيا» من انتقاء الجيد من ذكرياتنا ومحو السيئ؟

ماذا لو تمكنا «جراحيا» من انتقاء الجيد من ذكرياتنا ومحو السيئ؟

ماذا لو تمكنا «جراحيا» من انتقاء الجيد من ذكرياتنا ومحو السيئ؟

"تذكرني. حاول قدر المستطاع". عبارة يتخيل فيها جول محبوبته وهي تهمس له بها، وهو لا يدرك أنه في تلك الأثناء منوّم في سريره بمعدات تحيط رأسه وأطبّاء يحاولون انتزاع ذكراها من داخله، ليقاوم عقله الباطن ذلك قدر المستطاع. الفيلم "إشراقة أبدية للعقل اللامع" أمريكي درامي يحمل طابعاً فانتازياً، ويغوص في تفاصيل القلق النفسي والارتباك العاطفي. وهو من إخراج الفرنسي ميشيل جوندري لعام 2004. على الرغم من مضي 11 عاماً على الفيلم إلا أنه متميز بفكرته، يرفل بمعاني عميقة حول الذاكرة والنسيان ومحاولة التخلص من الألم. وقد اقتبس العنوان من قصيدة: "إلويزا إلى آبيلارد"، للشاعر الإنجليزي "ألكسندر بوب". #2# "إنها لخسارة حقاً، أن تقضي ذلك الوقت المطول مع شخص ما، فقط لتكتشف أنه أصبح غريباً عنك." حاز الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو، وقد أعدها المتميز تشارلي كوفمان، إذ اختار فكرة فاتنة بخروجها عن النسق، حيث ترفل الحبكة بأحداث افتراضية لإمكانية محو الأشخاص الذين يتسببون في وجع القلب عن الذاكرة تماماً. كما حدث مع جول، إذ اكتشف أن حبيبته كلمنتين قررت نسيانه فارتادت عيادة وطلبت بالتحديد إزالته هو من ذاكرتها. يصطدم بعدم تعرفها عليه ومقابلته كغريب عنها، ويقرر خوض التجربة ذاتها هرباً من أوجاع قلبه. يستهل الفيلم بمشهد لجول باريش، وهو شاب هادئ يشعر بالأسى لنفسه بسبب شعوره بالوحدة ليلة عيد الحب، ويردد بحنق: "اليوم هو عيد تم اختراعه من قبل شركات بطاقات المعايدة لدفع الناس بالإحساس بالتعاسة". ليلتقي صاحب الشخصية الخجولة الرصينة بكلمنتين ذات الشخصية الهوائية المتقلبة، التي تختار تغيير لون شعرها حسب مزاجها المتقلب إلى أزرق وأحمر وزهري. وفّق المخرج في اختيار كل من الممثل جيم كيري الذي جسد شخصية جول الذي تمكن من الخروج من بوتقة الكوميديا بدور جديّ كهذا الفيلم، وفيلمه الآخر المتميز "برنامج ترومان". في الوقت الذي تألقت الممثلة المتميزة كيت وينسلت كعادتها ونجحت في تجسيد دور كلمنتين كامرأة نزقة متقلبة، كما احترف كل منهما التلقائية بأريحية تدفعك لتصديق المشهد وكأنه جزء من واقعهما. فيما برع المخرج في استغلال التباين في الألوان الفروقات بين الأمزجة والشخصيات المختلفة، فجول يختار ألوان داكنة كالأزرق والأخضر، فيما ترفل كلمنتين بألوان زاهية قد تزعج العين كالأصفر والبرتقالي. يتجلى المكان من خلال علاقة حب ما بين جول وكلمنتين تحمل سر التقائهما في مونتوك في مدينة نيويورك، ليكتشف المشاهد فيما بعد أسباب الالتقاء عند محطة القطار، ويظهر في تكرار مشاهد القطار والسيارة رمزية تعكس طبيعة العلاقة بينهما منذ بدايتها حتى انتهائها. تتناثر في تفاصيل الفيلم مشاهد تعلق بالذاكرة بجماليات تصويرها السينمائي، كمشهد البحيرة المتجمد، حيث ترتمي كلمنتين وإلى جانبها جول الذي يدفع عن نفسه الذعر المرتبط باحتمال انكسار الجليد، ليراقبا السماء الداكنة بحبور طفلين عاشقين. أو ذلك البحر الممتزج برمل بتصوير أثيري خلاّب يعكس علاقة حب ابتدأت في إحدى نسخه من ذلك المكان. أو ككابوس جول الذي يتخيل فيه محبوبته تجبره على استراق لحظات للتسلل إلى منزل لا يمتلكونه، وتصوّر أنهما يقطنانه، ليبدأ المنزل بالتهالك تدريجياً، كما الذكريات التي تتلاشى من عقله فيرقبها بأسى، ومن بعد مرحلة الإنكار والغضب يصل إلى مرحلة استسلام فعلي. إذ تطلب منه باستماتة العودة إلى المنزل فيباغتها بيأسه فقد خرج أخيراً ولن يتمكن من العودة. بانسيابية تنتقل العلاقة من تلك البدايات الأثيرية بلذتها إلى نهاياتها حين تختفي ملامح الحب، إذ تصل العلاقة إلى مرحلة استفزاز تحنق فيها كلمنتين بطبائعه، وتلك التفاصيل التي كانت تمدها بإعجابها به كشخصيته الهادئة المثقفة الكتومة الرافضة للتعبير، التي دفعتها للمبادرة بمحاولة استمالته فيما اكتفى بمراقبتها بصمت وافتتان. يحنق هو على تهورها ونزقها وكونها أقل ثقافة ومستوى، على الرغم من أن ذلك ما دفعه للافتتان بها. يكتشف فيما بعد أن شخصيتها المندفعة تجعلها تصاب بسرعة الملل من علاقاتها، فيما ينتابه الذعر من اندفاع مشاعرها الفيلم يناقش فرضية مقدرة المرء على محو تلك الذكريات الأليمة، واختياره ذلك إن أمكن. ليقابلها فيما بعد إدراك لمدى فداحة ذلك الخيار ومن ثم محاولة مستميتة لالتقاط تلك الذكريات والمحافظة عليها. بقلق أليم يستطيع جول أثناء عملية تنويمه الشروع في مسح ذاكرته، الاستماع لبعض أحاديث الطبيب ومساعديه، فيحاول الاستفاقة والدفاع عن ذكرياته باستماتة تدفع المشاهد إلى التعاطف معه، بالأخص حين تختلط في ذهنه كوابيس وهلوسات تتعمق لتحفر في الذاكرة بحثاً عن أكثر الذكريات اختباء، ومحاولة تغيير الأماكن والذكريات التي قد لا يتمكن الطبيب من إزالتها لعدم معرفته بوجودها. وتظهر مقاطع بديعة أشبه بالهذيان واستحضار شخصية كلمنتين ومشاركتها لجول ذكريات طفولته، وترسبات قديمة لآلامه وخيباته وشعوره بالخزي. ومحاولة الآخرين كباتريك الشاب المتلصص الذي تمكن من استغلال ذكريات جول وكلماته واقتباساته التي تمكن من خلالها كسب ودّ كلمنتين واقترابه منها، ليعيد تلك العبارات عليها ليزيد من حيرتها وقلقها. من تلك المقولات البديعة المؤثرة في الفيلم مقولة مقتبسة من فردريك نيتشة: "الذين ينسون هم المباركون، إذ يحصلون على الأفضل حتى من أخطائهم." وبذلك الغرض تم إنشاء تلك العيادة التي يحتشد فيها أناس، وبالأخص عند اقتراب مناسبات يحاولون القضاء على آلامهم من خلال محو ذلك الجزء المعتم الأليم من ذاكرتهم. بسخرية تظهر وكأنك تمسح شخصا من ذاكرتك، لتلتقي به من جديد، وتصل إلى المرحلة ذاتها من الافتتان به ومحاولة الالتقاء به دون تذكر لذلك الألم الذي تسببه بمعرفتك به قبل ذلك. بل حتى حين تدرك قسوة المواقف والعبارات التي حدثت ما بين جول وكلمنتين، فإن ذلك لم يمنعهما من خوض التجربة ذاتها مرة أخرى. وكأن ذلك على نسق كلمات تلك الأغنية الكلاسيكية الفرنسية لإيديث بياف: "لا أندم على شيء." بل إعادة الكرّة مرة أخرى والوقوع في الحب ذاته الذي قد يكون هفوة. الفيلم "إشراقة أبدية للعقل اللامع" هو أشبه بلوحة بديعة تبوح بالأحاسيس وتحاول الإمساك بها قبل أن تتلاشى.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون