ثقافة وفنون

جيل ثالث من «مدرسة فرانكفورت» العريقة يؤسّس لفلسفة «الاعتراف»

جيل ثالث من «مدرسة فرانكفورت» العريقة يؤسّس لفلسفة «الاعتراف»

جيل ثالث من «مدرسة فرانكفورت» العريقة يؤسّس لفلسفة «الاعتراف»

"ما أشكل الإنسان على الإنسان، أصاب حظا من العلم فقال أنا بروميثوس فإذا به سيزيف" تكاد هذه المقولة تكون لسان حال مدرسة فرانكفورت (معهد البحوث الاجتماعية سابقا) بأطاريحها النقدية المتوالية، التي لا تسعى إلى التفكير فقط في المجتمع بل تعمل على تغييره من خلال انتخاب حلول ومقاربات نقدية لأعوص إشكالاته. يظهر ذلك جليا بتتبع تطورات مسار هذه المدرسة الألمانية التي أسست في مدينة فرانكفورت عام 1923 بقرار من وزير التربية، ودعم مادي لـ ج. ويل (j. Weil) وتشجيع من ك. أ. جيرلاش.(k. a Gerlach) جاءت هذه الفكرة عقب ندوة عن الماركسية سنة قبل ذلك شارك فيها كل من لوكاش (Lukacs) وبولوك (Pollock) وكوش (Koch) وفيتفوجيل (Wittfogel)، وبذلك نشأت فكرة مؤسسة دائمة للدراسة النقدية للظواهر الاجتماعية تحمل كارل كرونبورغ (Carl Grunberg) مسؤولية المؤسسة إلى غاية عام 1930 ثم تحول الإشراف إلى ماكس هوركهايمر بوصفه المؤسس الرئيس لهذه الفكرة. عرفت هذه المدرسة حتى الآن ثلاثة أجيال، تمكن كل جيل من نحت نظرية فلسفية، فالأول كان جيل الرواد الكبار، ومن أبرزهم ماكس هوركهايمر (بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية)، وثيودور أدورنو (أبحاث في علم الجمال والاجتماع ونقد المجتمع الرأسمالي)، وفالتر بنجامين (دراسات عن المسرح الملحمي)، وهربرت ماركيوز(العقل والثورة، أيروس والحضارة، والإنسان ذو البعد الواحد)، وإريك فروم (الهروب من الحرية، التحليل النفسي والدين، اللغة المنسية: مدخل إلى فهم الأحلام والقصص الخيالية والأساطير، المجتمع العاقل)، وليو فينتال، كان هذا الجيل المؤسس لنظرية النقدية. أما الجيل الثاني فضمن أبرز أسمائه نجد يورغن هابرماس، وكارل أتو آبل (أخلاق المناقشة، فكرة اللغة في مأثور الإنسسية، تحول الفلسفة، السميوطيقا المتعالية كفلسفة أولى)، وألفريد شميت... ويعد الأول أي هابرماس رائد هذا الجيل بامتياز بنظريته عن الفعل التواصلي. #2# بينما يمثل الجيل الثالث الصاعد الآن كل من سيلا بن حبيب وأكسيل هونيث الذي يدير المعهد حاليا، الذي يعمل على صياغة معالم نظرية فلسفية جديدة إنها فلسفة الاعتراف، وهي فلسفة اجتماعية تختلف عن السوسيولوجيا والعلوم الاجتماعية، نظرا لتميزها بالمقاربة الأخلاقية للمسألة الاجتماعية. تأتي هذه النظرية الاجتماعية الجديدة التي يطورها هونيت لتسمح بتأسيس معياري لنقد المجتمع من خلال بحث أسئلة من قبيل لماذا مجتمعاتنا تخترقها الكثير من الحركات الاجتماعية؟ ما المطالب التي تعبر عنها تلك الحركات المنظمة منها المنظمة أو غير المنظمة والعنيفة منها أو السلمية؟ كيف نحقق السلام الداخلي مع الذات والسلام الخارجي مع الآخرين والعالم؟ ما شروط الحياة الطيبة؟ للإجابة عن هذه التساؤلات يقترح علينا هونيت الانطلاق من سؤال ما المجتمع؟ هذا السؤال يجيب عنه في أحد حواراته قائلا إن: "المجتمع الجيد هو المجتمع الذي يسمح لأفراده من خلال توفير الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بتحقيق ذواتهم واستقلاليتهم. كما أنه المجتمع الذي يسمح لأفراده بتحقيق أحلامهم دون المرور من تجربة الاحتقار أو الإقصاء. أو بعبارة أخرى جامعة، فالمجتمع الجيد هو الذي يضمن لأفراده شروط حياة جيدة". هذا النموذج الذهني المتخيل أو المأمول كشف لدى هونيث عن مفارقات الحضارة الغربية التي استطاعت أن تجمع بين فن الاحتفاء بالحياة وعشق المظاهر المرتبطة بها، وبين الشعور المتنامي بصعوبة الحياة وما يصاحبها من كآبة وإحساس بالاختناق؟ ويرصد الفيلسوف لتحليل هذه المفارقة تطور مجتمع الاستهلاك الرأسمالي وإعادة تقييم الأحاسيس التي يولدها داخل الفرد. فوفقا له لا تنتج الاختلالات الاجتماعية فقط عن المشكلات المرتبطة بانتهاك مبادئ العدالة، بقدر ما تنجم عن عجز المجتمع عن ضمان حياة ناجحة وممتلئة لأفراده. يصل بنا هونيث في تحليله إلى نقطة جوهرية يفرق فيها بين متطلبات الوجاهة والجري وراء الاستهلاك غير المجدي الذي يعبر عن نقص، وبين سعي الأفراد إلى تحقيق ذواتهم من خلال الأنشطة المتعددة والعلاقات الاجتماعية المثمرة. وعلى غرار من سبقوه من السوسيولوجيين، يركز بالغ اهتمامه على العلل الاجتماعية، محاولا تجاوز المقاربات التقليدية التي كانت تحصر الظواهر الاجتماعية في الصراع الطبقي، أو انعدام التكافؤ الاجتماعي. ولعل جديد أطروحة هونيث هو تجاوزه للعامل الاقتصادي في تفسير التحولات الاجتماعية، وتسليطه الضوء على الشروط الثقافية التي تحول دون تفتح أفراد المجتمع وتحقيقهم لذواتهم اعتمادا على أطروحة هيجل الأولى ومكتسبات علم النفس الاجتماعي ( من جورج ميد إلى دوناد وينيكوط) يقترح هونيث إدراك الصراع الاجتماعي بمنظور الصراع من أجل الاعتراف؛ ويفصل في كتابه "مجتمع الاحتقار: نحو نظرية نقدية جديدة" (2006) وقبله كتاب "الصراع من أجل الاعتراف" (2000) هذا الأمر الذي يقتضي من وجهة نظره التمييز بين ثلاثة مستويات لهذا الاعتراف، تتناسب جدليا مع ثلاثة نماذج من تحقيق الذات: - الأول: هو الحب الذي يجمع فردا ما بمجموعة ما. فهذه القوة العاطفية التي تربطه بمجموعته هي التي تحقق له الثقة بنفسه ودونها لن يتمكن من المشاركة في الحياة العامة. - الثاني: قانوني باعتبار الفرد هو فرد عالمي له حقوق وواجبات، ويجب أن نفهم أفعاله على أنها تعبير عن استقلاليته. من هنا فالارتباط ضروري بين الاعتراف القانوني والاحترام للذات. لكن هذا ليس كل شيء. من أجل إقامة علاقة دائمة مع أنفسهم، فالناس عليهم التمتع باحترام اجتماعي يسمح لهم بالتعاطي الإيجابي مع قدراتهم ومواهبهم أو مع بعض القيم المستلهمة من هوياتهم الثقافية. - الثالث: التضامن أو ما أطلق عليه البعض بـ"التقدير الاجتماعي" الذي هو مرتبط بتقدير الذات، أو ما نسميه بالإحساس بالقيمة. وإذا ما انتهك أحد المستويات، فإن الذات ستعتبر هذا الانتهاك مسا خطير بكامل الذات، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية. استطاعت هذه النظرية الجديدة أن تجد لها صدى طيبا، لدى الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور "في سياسة الاعتراف" التي تحمل دعوة إلى ممارسة الاعتراف لسماح بظهور مواطنة جديدة. الأمر نفسه يسري على الفيلسوفة الأمريكية ناسي فريزر بموقفها "العدل والاعتراف" حيث عملت على التأليف والتركيب بين عدل التوزيع المعني بالثروات والخيرات وعدل الاعتراف الذي يهتم بالجوانب الرمزية للإنسان ويسمح بتحقيق منزلة قانونية للمواطن. وفي العالم العربي نجد محاولات لتقريب عناصر هذه النظرية منها ما قام بها الباحث الجزائري الزواوي بغورة في كتابه "الاعتراف: من أجل مفهوم جديد للعدل، دراسة في الفلسفة الاجتماعية" (دار الطليعة). والباحث المغربي كمال بومنير "النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى اكسيل هونيث"، (دار الأمان) وبعض أبحاث الباحث المغربي رشيد بوطيب المتخصص في الفلسفة الألمانية.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون