Author

معالجة القضية الإسكانية في إطار تنمية البيئة المالية

|
أستغرب كثيرا عندما أجد أحد صناع الرأي من المختصين بالشأن الاقتصادي يطرح حلولا للتصدي للقضية الإسكانية بأفق ضيق وتفكير رأسي وكأن القطاع العقاري الذي يشكل المجال الإسكاني في حدود 70 في المائة منه مفصول تماما عن قضايا الاقتصاد الكلي وقضايا القطاعات الاقتصادية الأخرى وخصوصا القطاع المالي الذي يمول كل القطاعات الأخرى وينعشها باعتبار المال أكسجين الحياة لكل المنشآت الاقتصادية. القطاع المالي في بلادنا بدأ ينتعش وينمو بشكل كبير بعد تأسيس هيئة السوق المالية، حيث زاد مستوى التنظيم والتطوير والحماية وسجل خلال السنوات العشر الماضية طفرات كبيرة من جهة الإصدارات الأولية للأسهم وإصدارات أسهم الأولوية بما عمق سوق الأسهم بشكل كبير، كما سجل تأسيس كثير من الشركات المالية "المصارف الاستثمارية" التي ساهمت بشكل كبير في إدارة الاكتتابات وإدارة المحافظ المالية المؤسسية إضافة إلى تأسيس وإدارة الصناديق الاستثمارية في الوقت ذاته، كما ساهمت في استقطاب كثير من الشباب السعودي للعمل في القطاع المالي وتأهيلهم التأهيل الأمثل وفق المعايير الدولية للعمل في المؤسسات المالية. رغم ذلك فإن السوق المالية ما زالت تعاني ضعفا كبيرا لأنها ما زالت سوق أسهم وتداولات أسهم فقط، وتعاني شبه غياب تام لسوق السندات بسوقيها الأولي والثانوي، رغم أن سوق السندات تعتبر أكسجين الاقتصاد وليس الأسهم كما حال سوقنا المالية، حيث تلجأ شركاتنا المدرجة للتمويل برفع رأس المال بإصدار أسهم أفضلية، وليس أدل على ذلك من أن الأسهم لا تشكل سوى 5 في المائة من تمويلات الشركات في اليابان، و11 في المائة في أمريكا. طبيعي أن تكون السندات هي الأكبر والأضخم في الأسواق الناضجة لكون السندات أدوات تمويل ودين وليست شراكة دائمة، ولذلك تحرص عليها الشركات لتمويل عملياتها وتوسعاتها لتعظيم أرباحها أكثر بكثير من الأسهم. في السوق الأمريكية على سبيل المثال نجد أن قيمة السندات المتداولة يوميا تتجاوز تريليون دولار مقابل 150 مليارا قيمة تداول الأسهم، في حين تبلغ قيمة الإصدارات الجديدة سنويا في السوق الأمريكية من السندات ما يقارب سبعة تريليونات، مقابل إصدارات أسهم جديدة بقيمة 300 مليار فقط. القضية السكانية تعاني خللا أدى لانخفاض نسبة الملكية لدى المواطنين تدريجيا بسبب عدم جدوى آلية الأرض والقرض ــــ الأرض التي تمنحها الأمانات والبلديات والقرض الذي يمنحه صندوق التنمية العقاري ــــ التي كانت فاعلة فيما مضى وضعفت فاعليتها بتزايد الطلبات من ناحية وانخفاض إيرادات الصندوق لعدم التزام المقترضين بالسداد وعدم تمويله من الدولة أثناء فترة انخفاض أسعار النفط في التسعينيات بشكل كبير من ناحية أخرى. الاقتصاد السعودي مزيج من الاقتصاد الرعوي المعتمد على إيرادات النفط كمورد طبيعي واقتصاديات السوق، ويتجه لتنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على النفط المتذبذب الأسعار والذي بدأ يتهاوى شيئا فشيئا، ولذلك فإن الدولة لن تستطيع بحال توفير الموازنات الهائلة لتوفير المسكن لكل مواطن ولابد أن تلجأ للسوق العقارية للقيام بذلك، وهي سوق تتطلب تنظيمها وتطويرها كصناعة وحماية أطرافها كافة وذلك في إطار تنمية القطاعات الأخرى كلها وخصوصا السوق المالية التي تعتبر أكسجين الحياة للسوق العقارية وتتفاعل معها إيجابا وسلبا بشكل كبير في دول العالم كافة. بكل تأكيد الحكومة لا تود أن تفرض أنظمة وقوانين تخل بقواعد حرية السوق وتؤدي لهروب رؤوس الأموال وإحجام المطورين وانسحاب الاستثمارات من هذه السوق، بل العكس هو ما تسعى الحكومة إليه فتنمية السوق العقارية وتنشيط التطوير العقاري بكل أنواعه يؤدي بالتبعية لضخ مزيد من أنواع الوحدات السكنية كافة "شقق، دبلكسات، فلل" والتي تناسب جميع الحاجات والقدرات المالية للمواطنين بدعم من أنظمة التمويل العقاري للمطورين والمشترين، الأمر الذي يتطلب تحويل مدخرات المواطنين الراغبين في استثمارها بأقل المخاطر لأدوات تمويل ضخمة بطرح أوراق مالية كالسندات المدعومة بالأصول العقارية والسندات المدعومة بالإيجارات والرهن العقاري لتمويل المطورين والمشترين معا. اقتصاديات السوق تقوم على تحويل مدخرات المواطنين إلى أدوات تمويلية استثمارية كأصول متداولة يمكن شراؤها في الطروحات الأولية وتداولها في السوق الثانوية. وتعتبر السندات بأنواعها كافة من أفضل الأدوات الاستثمارية التي يلجأ إليها أصحاب المدخرات ومن تلك السندات التي تحقق رغبات المستثمرين من أصحاب المدخرات والمواطنين الراغبين بشراء مساكن والدولة معا هي السندات العقارية، وخصوصا أن السوق العقارية تعتبر أكثر ثاني أهم سوق منتجة في المملكة بعد النفط وحجم الطلب السنوي المتنامي على المساكن ينبئ بشكل واضح عن عمق سوق الرهن العقاري وهي بالمحصلة سوق سندات "صكوك". السوق العقارية تعيش اليوم حالة من الضبابية التي أدت إلى ركودها وأثرت سلبا في نشاطها وأنشطة القطاعات الأخرى وحركة الأموال وحجم ونوعية القروض وحجم ونوع الأوراق المالية والقنوات الاستثمارية المتاحة للمواطنين من أصحاب المدخرات الذين توجهوا لاستهلاك مدخرات بشكل هائل في السفر والكماليات والمنتجات الاستهلاكية بشكل كبير والاستثمار بشراء العقارات في الخارج التي تشجعهم على مزيد من الإنفاق السياحي خارج المملكة. وزير الإسكان الجديد يعمل على صفيح ساخن ويراد منه أن يحل المشكلة الإسكانية في شهور رغم أن من قبله لم يوفق في حلها في سنوات رغم توفير جميع الإمكانات، وهذا دليل على أن الحلول السابقة خالفت هيكلة السوق العقارية وارتطمت بصلابتها ولم تفتتها وتفاقمت المشكلة، وبالتالي علينا أن نعطيه فرصة للدراسة المتأنية لوضع حلول لمعالجة القضية الإسكانية في إطار سياسية تنويع مصادر الدخل وتنمية الأسواق كافة ومن أهمها السوق العقارية الأضخم وزنا والأكثر أهمية. ختاما، عمر الدول يقاس بالقرون وأتطلع إلى حل ناجع للقضية الإسكانية في إطار رؤية شاملة لتنمية الاقتصاد الوطني وجميع قطاعاته وعلى رأسها تنمية القطاع المالي الذي يوفر أكسجين الاستمرارية والتوسع للمنشآت الاقتصادية في القطاعات كافة.
إنشرها