Author

هل يهدد تراجع أسعار الأراضي الاستقرار الاقتصادي؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
نضع اليد على موضوع تناولته الآراء والنقاشات بكثير من الجهل أكثر منه بالعلم، وبكثير من التكهنات المجردة دون التأكّد من حقائقه استنادا إلى بيانات موثقة، وكل ذلك لاكتشاف أين يكمن الخطر الحقيقي، الذي يهدد فعلا الاستقرار الاقتصادي والمالي لدينا، وللوقوف على الخيارات الأنسب أمام مفترق الطرق التي طغى عليها التضارب والحيرة، بل وحتى التناقضات في كثير من القرارات والإجراءات، التي سرعان ما يصيبها الشلل وعدم الجدوى بمجرّد إقرارها من الأجهزة التنفيذية. تعمل الجهات القائمة على السياسات النقدية والمالية في كل البلدان، على ألا تتشكّل أي فقاعات سعرية في الأسواق الجزئية لتلك البلدان كسوق المال أو العقار أو غيرها، ولعل أهم أداة تتم السيطرة عليها في المجال هو إحكام منافذ التمويل والائتمان المحلي تجاه تلك الأسواق، لهذا من الأهمية التعرف على أهم العوامل التي تؤدي إلى تضخم الأسعار وتشكّل فقاعاتها، حتى نفهم جميعا واقع الأزمة العقارية لدينا، ومن ثم يمكن الوصول إلى الإجابة السليمة، وهو ما سيتضح لاحقا. يقوم خلف تشكّل أي فقاعة سعرية في أي سوق كانت ثلاثة عوامل رئيسة، هي على النحو الآتي. العامل الأول: عدم تماثل معلومات السوق لدى أطرافها كافّة، وهو الشرط المتحقق حتى تاريخه في السوق العقارية، على الرغم من بدء وزارة العدل في تقديم كامل البيانات حول نشاطها، ورغم ذلك تمت مواجهتها من قبل أقطاب السوق العقارية بالتشكيك وعدم الموثوقية، وهي ردّة فعل مفهومة أسبابها؛ كونها تقطع الطريق على استفادتهم من الفوضى العارمة والجهل المطبق، اللذين اُستغلا لتحريك اتجاهات السوق وفقا لأهواء ورغبات أقطاب السوق التي تلتقي مع أهدافهم الخاصة، وإن كانت على حساب مقدرات الاقتصاد والمجتمع. العامل الثاني: زيادة تدفق رؤوس الأموال والمدخرات الباحثة عن فرص مجدية للاستثمار أو المتاجرة (المضاربة)، وهذا ما حدث بالفعل بعد انهيار السوق المالية في نهاية شباط (فبراير) من عام 2006، لتخرج عشرات المليارات من الريالات من السوق المالية، لتتجه في ظل الغياب الكبير للبدائل الاستثمارية المتنوعة والمتعددة إلى السوق العقارية المحلية، تركّز أغلبها على شراء الأراضي بكافة أنواعها طوال الأعوام التي أعقبتْ انهيار السوق المالية، وزاد من تدفقاتها على شراء الأراضي والعقارات لاحقا تحسّن أسعار النفط، وزيادة الإنفاق الحكومي خلال الفترة 2007 ــ 2010 إلى ضعف مستوياته قبل انهيار السوق المالية، ثم إلى ثلاثة أضعافه خلال الفترة 2011 ــ 2014، ليتجاوز إجمالي الإنفاق الحكومي خلال الفترة 2007 ــ 2014 سقف الـ 6.0 تريليون ريال، أي ما يقارب (نصف) حجم الإنفاق الحكومي منذ 1790 إلى تاريخه، وكأننا نتحدث عن استئثار نحو ثمانية أعوام فقط بنصف إنفاق فترة زمنية وصلت إلى 45 عاما! ولهذا ارتفعت مستويات السيولة المحلية من نحو 553 مليار ريال قبل انهيار السوق المالية في 2006، إلى أن تخطّت خلال أقل من أربعة أعوام فقط سقف الـ 1.0 تريليون ريال بنهاية 2009 (أي بزيادة 500 مليار ريال)، ثم تجاوزت خلال خمسة أعوام أخرى سقف الـ 1.7 تريليون ريال (أي بزيادة تفوق الـ 700 مليار ريال). إذا؛ أمام تدفقات تريليونات الريالات خلال فترة قصيرة من الأعوام، وتحت ضيق وشح توافر فرص حقيقية للاستثمار محليا، التي لم تجد منفذا أسهل حينئذ من السوق العقارية، وهذا ما حدث فعلا، ولعل من عاصر مطلع تلك الفترة 2005 ـــ 2007 شهد حجم الإقبال الكبير على المساهمات العقارية، التي كانت شروطها اليسيرة لا تتجاوز ثلاثة إلى أربعة شروط، استوعبتها صفحة واحدة على موقع وزارة التجارة والصناعة، وكيف ارتفعت رؤوس الأموال المستثمرة فيها (قدر حجم استثمارات تلك المساهمات بأكثر من 400 مليار ريال)، سرعان ما تعثر أغلبها في الأعوام التالية، لتتحول إلى أحد أسباب تفاقم الأزمة العقارية كما نشهد اليوم، وقيام وزارة التجارة والصناعة بتولي مسؤولية تصفيتها (تجاوز عدد المساهمات الـ 200 مساهمة عقارية). الشاهد من كل ذلك، أن الوفورات الهائلة من السيولة الباحثة عن فرص استثمار، لم تجد أمامها سوى السوق العقارية وتحديدا الأراضي كأفضل مخزن ونمو للثروة. العامل الثالث: وهو العامل الأكثر خطورة بين العوامل الثلاثة، الذي سيؤدي تفاقمه وخروجه عن سيطرة الأجهزة القائمة على السياسات المالية والنقدية، إلى اتساع دائرة مخاطر تشكل فقاعة العقار، المتمثل في زيادة خلق الائتمان البنكي داخل السوق العقارية، الذي يعد في الوقت الراهن أحد أكبر مهددات النمو الاقتصادي العالمي في أكبر الاقتصادات حول العالم، كالاقتصاد الصيني الذي يواجه خطر انفجار الفقاعة السعرية العقارية، والمخاوف الكبيرة من انتقال آثارها إلى الاقتصاد العالمي، وهي المخاطر التي لا تقل آثارها السلبية عن آثار الأزمة المالية العالمية التي اشتعلت نيرانها في منتصف أيلول (سبتمبر) 2008 إن لم تكن أكبر! بالنسبة إلى اقتصادنا الوطني، لا يزال هذا العامل في أدنى مستوياته على الإطلاق مقارنة بغيرنا من بقية الاقتصادات حول العالم، حيث لا تتجاوز نسبة القروض العقارية على الأفراد (98.1 مليار ريال) نسبة 7.4 في المائة من إجمالي الائتمان البنكي الممنوح، وهي أدنى بالنسبة إلى الشركات التي لا تتجاوز قروضها العقارية (73.0 مليار ريال) نسبة 5.5 في المائة، والباعث على الاطمئنان حتى تاريخه أن نسبة المخصص للأراضي من تلك القروض يكاد لا يُذكر أمام تريليونات الريالات المودعة كاستثمارات فيها. إلا أن المؤسف في الوقت الراهن، هو الاندفاع غير المدروس من بعض الجهات الحكومية في مقدمتها وزارة الإسكان وصندوق التنمية العقارية، لفتح هذا الباب الأكثر خطورة على القطاع المالي تحديدا، والاقتصاد الوطني بصورة عامّة، وكأننا نزيد من ضخ الوقود على نيران ألحقت بأذاها كافة الأنشطة الاقتصادية، وفي الوقت ذاته لنفتح أبواب الجحيم على القطاع المالي المستقر، عبر السماح بانكشافه التام على مخاطر التضخّم الكبير لأسعار الأصول في السوق العقارية من أراض وعقارات، في الوقت الذي بدأت خلاله مؤشرات سقوط الأسعار وانفجار فقاعتها في الظهور! شتان بين أن تتراجع الأسعار المتضخمة جدا للأراضي والعقارات بعيدا عن القطاع المالي، وبين أن تتورّط المؤسسات المالية في آثار انفجار تلك الفقاعة السعرية، ففي الحالة الأولى التي كما هو الواقع اليوم؛ يعد القطاع المالي في منأى شبه تام عن التأثر بآثار انهيار الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات، مقابل الحالة الثانية التي تريد أن تهرول بنا نحو توريط القطاع المالي بفتح خزائنه أمام أفراد المجتمع دون قيد أو شرط، لتمويل عمليات شراء واسعة لأصول عقارية هي في الأصل وصلت إلى ذروتها السعرية المتضخمة، وكأننا نستهدف التأسيس لأزمة اقتصادية ومالية لا تعادل أخطارها مستقبلا أي أخطار أخرى، نحن في غنى تام عنها مقارنة بعديد من الأزمات الاقتصادية التي نواجهها اليوم، وفي مقدمتها أزمة العقار والإسكان! لعل جزءا كبيرا من الصورة قد اتضح وفقا لما تقدم، أنّ انخفاض أسعار الأراضي والعقارات في الظروف الراهنة يحمل مزايا للاقتصاد والمجتمع أكبر بكثير مما يتم الترويج جهلا وعمدا له، وأن الخطر الأكبر هو ما سيلي (تهور) كشف استقرار القطاع المالي على تشوهات السوق العقارية، وهو ما سأكمل الحديث عنه في المقال المقبل بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق.
إنشرها