ثقافة وفنون

«كازابلانكا» .. مرفأ الأمان وانتظار الأحلام

«كازابلانكا» .. مرفأ الأمان 
وانتظار الأحلام

«كازابلانكا» .. مرفأ الأمان 
وانتظار الأحلام

"ودائما تبقى لنا باريس".. عبارة أصبحت تعدّ مقولة يتناقلها الكثير عقب ذياع صيت الفيلم الكلاسيكي "الدار البيضاء" أو كما يطلق عليه الغرب استناداً إلى اللغة الأمازيغية "كازابلانكا" لعام 1942، ليجسّد تلك الذكريات الحالمة في حقبة آنفة. يحمل الفيلم بعنوانه سحراً خاصاً وغرقاً في عبق المكان، وقدرة على تجسيد القلق وانعدام الأمان في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها. الفيلم الدرامي مقتبس من مسرحية جوان أليسون "الكل يأتي إلى مقهى ريك". قد أصبح رمزاً للأفلام الخالدة ذات اللونين الأبيض والأسود للمخرج مايكل كورتيز، يعد أحد الأفلام التي حازت هالة إعلامية ضخمة استمرت لما يصل إلى 73 عاماً، إذ رشّح لثماني جوائز للأوسكار حصد منها جائزة أفضل مخرج سينمائي وجائزة أفضل سيناريو. تستمر الإشادة بالفيلم وتدريسه في الجامعات ليعدّ صرحاً سينمائياً على الرغم من بساطته. برع المصور السينمائي الأمريكي آرثر أديسون في اختيار تقنيات إضاءة وتقريب للشاشة لإظهار الانطباعات والحالات النفسية للشخصيات، وتظهر ملامح بوادر لطابع الأفلام السوداء Noir في الفيلم الأخير، الذي تتعاقب أحداثه في آناء الليل. كما يظهر تأثر أديسون بالسينما الألمانية التعبيرية التي تتعمق في النفسيات مع اختيار الألوان الداكنة. خلّد الفيلم الأداء المتميز للممثل الأمريكي همفري بوجارت لشخصية "ريك بلاين"، مغترب نزق اختار المنفى في الدار البيضاء هرباً من هواجسه وماضيه لينشئ مقهى يعدّ ملاذاً للمتهافتين بحثاً عن الأضواء أو النسيان أو اللذة. تخلدت شخصية ريك صاحب الشخصية الساخرة الصارمة الذي يمقت التخطيط لمستقبله ولا يكترث لفعاله. يدحض عن نفسه انتماءه لأي جنسية بعيداً عن نشأته الأمريكية، إذ يجيب حين يسألونه عنها "جنسيتي الثمالة"، ليعلق قائد الشرطة الفرنسية "لويس رينو" بحماسة بأنه يعتبر نفسه مواطناً عالمياً، وكأن الفيلم يستبق في رؤياه زمناً تذوب فيه الحواجز ما بين الدول ويبحث المرء عن موطن يناسب ذائقته لتحط عليه قدماه. يخفي خلف قسوته وأنانيته المفرطة عاطفة متقدة وتجربة شكّلت شخصيته لتنقلب من شخصية عاطفية انفعالية يخطط للهرب مع محبوبته من الاجتياح الألماني والارتباط إلى آخر ناقم على العالم يعيش بعبثية، مقرراً تغيير اسمه أو اختصاره من ريتشارد إلى ريك كمحاولة اعتراض على براءته المفرطة. #2# لا يظهر جانبه الحميمي إلا عقب التقائه مرة أخرى بمحبوبة قديمة هي الفاتنة "إلزا لوند"، وتميزت بأداء دورها الممثلة السويدية إنجريد برجمان، تلك التي تمكنت من إخضاعه للوله والسيطرة على حواسه في فترة شبابه، وإن كانت لفترة محدودة في باريس إبان الحرب والاجتياح الألماني لتتركه ينزف، بغموضها وسرها الذي لا يكتشفه إلا عقب سنوات حين تعاود اجتياح حياته. تنجح هي في السقوط في هاوية التردد ما بين الالتزام والحب الجارف. ما جعل الفيلم مؤرخاً يكمن في انسيابية السرد فيه وعمق شخصياته التي تتعلق بالذاكرة بتفاصيلها التي تكسبها واقعية، وحوار متماسك وإن كان مقتضباً يعزز من حضور كل من ريك وإلزا. وإن كان لا يظهر على كل من الممثل همفري وإنجريد انجذاب فعلي على الرغم من عمق أدائهما، إلا أنهما يسبحان في نرجسية دوريهما بعيداً عن الانسجام السينمائي ليظهر ريك ناقماً عليها ومتلذذاً بامتلاكه خطابات خروج تتيح لها وزوجها الهارب من النازيين الخروج من الدار البيضاء إلى الولايات المتحدة. فيما تتقلب هي في حيرة واضطراب في مشاعرها لتبوح بطريقة مفاجئة له. في فيلم "كازابلانكا" يجتاحك المكان بتفاصيله، فذلك المقهى الذي يمتلكه ريك يختطف غالبية الأحداث ليحتفظ بها داخله، في الآن ذاته الذي تبرز فيه المدينة التي تعدّ محط أنظار المنفيين والهاربين من قيظ الحرب. يغلب على أجواء الفيلم طابع يمازج ما بين الحب والحرب، وكأن الحرب مرآة للعاطفة التي تحاط بالقلق النفسي والخوف من مستقبل مجهول. يتجلى دور السوق السوداء ومحاولة استغلال الظروف لجني المال. لا تظهر معالم مغربية إلا من خلال أسواق شعبية وشخصيات هامشية تحمل وظائف دنيا، وفناجين قهوة عربية توزع على الحضور المفتون بالطقوس الشعبية. تظهر الدار البيضاء لأول وهلة كجنة ينعم فيها من لا وطن له، حيث بإمكانهم الحصول على الأمان وكسب المال ومقابلة امرأة جميلة. إلا أن ذلك الافتتان بالمدينة يبدأ في التلاشي تدريجياً لتظهر وكأنها مرفأ يستند إليه الآخرون حتى الانتقال إلى موطن الحلم، الولايات المتحدة التي يحاول الأغلبية الوصول إليها باستماتة كرمز للأمان. يثير العجب اعتبار فيلم كازابلانكا نموذجاً للفيلم الرومانسي المتعمق بملامحه، على الرغم من وجود هاوية تفصل ما بين العاشقين. وكأن الحب مجرد حالة توهّم بتلك الأحاسيس تجاه الآخر. ويختار ريك بعد تمعّن التخلي عن حبه وإن كان قادراً على الحصول عليه إثر حالة تجلٍّ مفاجئة تجعله يدافع عن قيم لم يكترث لها من قبل. وكأنه اختار معانقة الماضي والتلذذ بأحاسيسه بعيداً عنها. الفيلم ببساطته يعد سهلاً ممتنعاً يأسر المشاهد بأريحيته التي تتمازج مع عمق الحبكة وتغرق في عوالم كل من ريك وإلزا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون