Author

لا أبرياء في هدر الطعام

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"عندما تدق ساعة الجوع، لا طعام سيئا" مثل ياباني في غضون أسابيع من تحرك الحكومة الفرنسية لتشريع قانون يجبر المحال الكبرى على تقديم المنتجات غير المبيعة إلى الفقراء والمشردين، ومع تنامي حراك جهات الضغط الأوروبية (على وجه الخصوص) في هذا المجال، وبظهور أرقام وحقائق صادمة جدا عن إهدار الطعام ليس في البلدان الغنية، بل حتى في الدول الفقيرة.. مع كل هذه التطورات، باتت هذه القضية حاضرة على الساحة في الاتحاد الأوروبي، وعدد آخر من البلدان التي تعتقد ضرورة التعلم من الآخرين لتحقيق الأفضل. هدر الطعام، لم يكن مطروحا حتى قبل سنوات قليلة على الساحة، إلا أن عوامل عديدة جعلته موجودا على الساحة، وفي مقدمتها بالطبع الفقر والعوز، ليس فقط في البلدان الفقيرة بل الغنية أيضا. فمعدلات الفقر في البلدان المتقدمة ارتفعت منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، في حين وصلت إلى أعلى مستوياتها في البلدان الفقيرة، أو تلك التي تعتمد بصورة رئيسة على المساعدات والمعونات. فهذه الأخيرة تعرضت أيضا لانتكاسات كبيرة؛ لأن البلدان المانحة نفسها عانت الأزمة، التي انسحبت على كل حراك ونشاط اقتصادي محلي وخارجي. وعندما تشتد الأزمات، تشتد معها عمليات البحث عن مصادر لحلها، ولا سيما عندما ترتبط بصورة مباشرة بالحالة الاجتماعية المعيشية. والحق أن المؤسسات المدنية ذات الصلة خاضت حتى قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، صراعات كبيرة مع المتاجر الكبرى في فرنسا، وغيرها من البلدان الأوروبية، لوضع إطار مفيد للطعام المهدر؛ لكي تحقق هذه المؤسسات شيئا مفصليا في هذا الأمر. لكن مع تدخل الحكومة الفرنسية، والهيئات والسلطات البلدية، وغير ذلك من جهات مدنية، بات موضوع استثمار الطعام المهدر أمرا ليس اقتصاديا فحسب، بل وطنيا أيضا. الأهم من هذا كله أن مفوضية الاتحاد الأوروبي تبنت هذه القضية المهمة، وبدأت بإدخالها في إطار مباحثات، بهدف سن تشريعات أوروبية، تفرض على المتاجر الكبيرة قوانين صارمة فيما يرتبط برمي الطعام غير المبيع. مع هذا التحرك الأوروبي، هناك تحرك على صعيد الأمم المتحدة في اتجاه الوصول إلى اتفاقية عالمية بشأن الطعام المهدر على مستوى العالم، خصوصا مع ارتفاع إجمالي هذا الطعام في كل بلدان العالم، مع تباين هنا وآخر هناك. والحقيقة ما كانت تلك التحركات لتتم لولا أن الطعام المهدر بحد ذاته بات يمثل قطاعا (البعض يطلق عليه "اقتصادا")، لا يمكن تجاهله، أو بالأصح لم تعد الدول حتى الكبرى قادرة على تجاهله. تصل نسبة الطعام المهدر عالميا إلى ثلث ما يتم إنتاجه! وتزداد هذه النسبة في المناسبات التي تتميز بارتفاع الإنفاق على الطعام. فعلى سبيل المثال، زادت نسبة الطعام المهدر في شهر رمضان الماضي في بلدان الخليج بمعدل يراوح ما بين 15 و30 في المائة، طبقا لكل بلد منضوٍ تحت لواء مجلس التعاون الخليجي. وتقول جمعية حماية المستهلك السعودية، إن 70 في المائة من طعام السعوديين في رمضان يلقى في النفايات. والأمر لا يصل إلى هذا المستوى بالطبع في البلدان الغربية؛ لأن التدبير الغربي المنزلي أفضل منه على صعيد الإنفاق من الجانب العربي. في كل الأحوال الحديث هنا ليس عن هدر العائلات للطعام (هذا وحده مصيبة اقتصادية أخرى)، بل عن هدر المتاجر لهذا الطعام. المهم أن هناك تحركا على مستويات عالية وفي نطاقات واسعة جدا. الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وسيتم تحقيق قفزات نوعية أخرى جديدة، إذا ما انضمت تجمعات إقليمية حول العالم لهذا الحراك، لكي يصبح فيما بعد قرارا دوليا حقيقيا يفرض معاييره وأخلاقياته ومنافعه الاقتصادية والاجتماعية أيضا. الناشطون المدنيون، بدؤوا بالفعل منذ أسابيع التحرك لجمع التواقيع، لإسناد الحراك المشار إليه، كما قاموا بتنظيم سلسلة من التجمعات الصغيرة، قدموا فيها العوائد الإنسانية والاجتماعية الكبيرة لقانون يجبر المتاجر الكبرى على عدم إلقاء الطعام في القمامة، وتحويله بطرق مختلفة إلى الفقراء والمحتاجين، بل إن بعض الجمعيات المهتمة أكدت أن هذا الطعام يمكن معالجته وإيصاله إلى المحتاجين حول العالم، بالتغليف الاحترافي والتعليب والحفظ الصحي وغير ذلك. لا يوجد بلد "بريء" من هدر الطعام، كما لا توجد حكومة أو سلطات مختصة، يمكن أن تبعد نفسها عن هذه المسألة. فعندما يتعلق الأمر باللقمة، فلا معنى لقوانين الاقتصاد لو أتت من اليسار أو اليمين، ولا قيمة لأي مصلحة أخرى. ويبدو واضحا أن المتاجر الكبرى التي عاندت في البداية التعاون مع السلطات المختصة، بدأت تغير من رؤيتها لهذه القضية، خصوصا أن هناك مداخل عديدة للوصول إلى هذه المتاجر غير المتعاون، عن طريق فرض العقوبات المختلفة. وهذه في الواقع الطريقة الأسرع (وربما الأمثل) للحد من الجوع على المستوى العالمي. فالاستفادة من ثلث الإنتاج الغذائي المهدر، يحل تلقائيا مشكلات الجوع، كما يرفع أعباء ثقيلة عن كاهل الحكومات نفسها. الحد من الهدر، يشكل "اقتصاد اللقمة المضمونة"، ويضيف أخلاقيات مطلوبة في كل الأزمنة لسوق الغذاء.
إنشرها