Author

الاقتصاد والتنمية .. وجه آخر

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أختتم الحديث عن ملف تحرير أسعار الطاقة محليا، الذي استغرق المقالات الثلاثة الأخيرة، وصولا إلى الجزء الرابع حول أهم التغيرات التي ستطرأ على الحياة العامة محليا، والجوانب الاقتصادية والمالية تحديدا. لعله من الأهمية بلورة أبرز ما ورد في الأجزاء الثلاثة السابقة؛ حيث ابتدأ أولا بضرورة العمل على تحرير الأسعار رغم تأخره الطويل، وأهمية أن يتزامن مع تحسين مستويات الأجور وبرامج الدعم للمواطنين في الطبقة المتوسطة فما دون، الذي تم التوسع في إيضاحه بصورة دقيقة في الجزء الثالث من المقالات السابقة. وثانيا أن الوضع الراهن (الدعم المعمم) قد ذهبت أغلب فوائده إلى الأطراف الأقل استحقاقا له أو التي لا تستحقه في الأصل، تمثلوا في ثلاثة أطراف: (1) المستثمرين الأجانب (2) القطاع الخاص (3) الأثرياء والسكان غير السعوديين وتحديدا أصحاب الأجور المرتفعة، فيما لم تتجاوز فائدة الشرائح الاجتماعية من المواطنين المستحقين فعلا للدعم سقف الـ 10 في المائة. سيبدو الأمر مدهشا للجميع لو أن مبالغ الدعم الحكومي لأسعار استهلاك الطاقة، وبقية أنواعه الأخرى المتعلقة بالمواد الغذائية والزراعية، تم تدوينها في جانب المصروفات السنوية للحكومة طوال الأعوام الماضية؛ إذ كانت ستظهر تحمل أغلب إن لم يكن جميع تلك الميزانيات لعجوزات مالية لافتة! ونتج عنه ارتفاع مساهمة الإنفاق الحكومي لأعلى من 50 في المائة مقارنة بإجمالي الناتج المحلي، وهي النسبة التي ستفوق النسب المماثلة للإيرادات الحكومية. لهذا اختفى تحت غياب تلك الحقائق العديد من التشوهات الهيكلية، ونسب إلى أغلب السياسات الاقتصادية الجامدة ما ليس لها، التي ستر عيوبها ضخامة الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر، إلا أن ذلك الإنفاق لم يتمكن من إكمال إخفاء قصور تلك السياسات في العديد من جوانب التنمية المستدامة كالتوظيف وتحسين مستوى الدخل، وتقليص فجوات التباين في مستويات الدخل بين طبقات المجتمع، والحد من أشكال الاحتكار والتستر التجاري، وتحسين بيئة الاستثمار المحلية، وتعزيز التنافسية في السوق المحلية، ومعالجة العديد من الأزمات كالإسكان، وسرعة تطوير البنى التحتية، والارتقاء بالرعاية الصحية، وتوسيع فوائد التنمية الشاملة والمستدامة لمختلف الشرائح السكانية، التي يتحمل مسؤولية قصورها بالكامل الحلقات التنفيذية الوسيطة سواء الأجهزة الحكومية التنفيذية أو منشآت القطاع الخاص المتعاقد معها، ويتفاقم حجم هذا القصور من تلك الأجهزة مع تعاظم حجم الإنفاق الحكومي الضخم، كونه لم يعكس السخاء الكبير الذي حظيت به من قبل الدولة، فلم يترجم إلى منجزات تعالج ما تقدم ذكره من آثار تنموية سلبية، بقدر ما أنها زادت بكل أسف من عمق تلك التشوهات الهيكلية، وزادت من الاعتماد والارتخاء على ساعد الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر "الإعانات، القروض الميسرة من صناديق التنمية". إن البدء في تحرير أسعار الطاقة، والتخفيف التدريجي لضخ الإعانات الحكومية الأخرى للغذاء والزراعة، واقترانه بتحسين وتطوير السياسات الاقتصادية، مع الأخذ في عين الاعتبار الضرورة القصوى لاتخاذ التدابير الكافية تجاه مختلف شرائح المجتمع من السعوديين، سواء عبر تركيز الإعانات الحكومية أو عبر إعادة هيكلة الأجور والرواتب "الحكومة، القطاع الخاص"، إضافة إلى تحسين بيئة الاستثمار المحلية، وتسهيل تأسيس الأعمال بصورة شاملة، والاهتمام الأكبر بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة، يؤمل أن يتم كل ذلك وغيره من التغييرات المنشودة وفق رؤية استراتيجية متكاملة، لا أن يتم أي من تلك الإجراءات بطريقة منفصلة من قبل الأجهزة الحكومية المعنية، وهو الطريق الأفضل والممكن تحققه في الوقت الراهن تحت مظلة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، عوضا عن السير المتئد الخطى لخطط التنمية. إذا والحال تلك من التغيرات المحتملة، التي تبين أن تحرير أسعار الطاقة لا يقف عند هذه الخطوة فحسب، بل لا بد أن يأتي ضمن تغييرات واسعة وشاملة لنسيج السياسات الاقتصادية الراهنة، بما يشبه إعادة هيكلة الاقتصاد الكلي، بالصورة التي تستهدف إيجاد اقتصاد أعلى إنتاجية، وأكثر تنوعا من وضعه الراهن، وقبل كل ذلك أكثر تنافسية بعيدا عن الاعتماد شبه الكامل للإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر، وتيسير السبل كافة أمام القطاع الخاص عبر تسهيل بيئة الاستثمار المحلية، وفتح نوافذ المنافسة الكاملة والحد من أشكال الاحتكار، بما يكفل سهولة توجه السيولة والثروات نحو قنوات الاستثمار المتنوعة، التي تخدم احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، وتغلق قد الإمكان تدفقها نحو المضاربة أو التكدس في أصول غير منتجة كالأراضي أو غيرها من الأصول. كل هذا سيترتب عليه الكثير من المزايا الاقتصادية والتنموية، يمكن إجمالها في انحسار التشوهات المذكورة باختصار أعلاه، مقابل انفتاح الكثير من فرص النمو والاستقرار الاقتصادي محليا، ويعز على الكاتب الاعتراف بأن كل ما تقدم لا يزال في طور النظرية بعيدا عن تحققه في الواقع، وأن أي تحرك خارج هذا المنظور قد يلحق الكثير من الآثار السلبية بالجوانب التنموية والاجتماعية، وقد يكون أكثرها ضررا أن تتم أي من تلك الخطوات أو الإجراءات دون أي تغيير على السياسات الاقتصادية، وهنا لا بد من التنويه والتحذير إلى أن عددا لا يستهان به من التشوهات الراهنة، قد تتوسع دوائرها أكثر مما كانت عليه، وهو ما قد لا تحتمل نتائجه مستقبلا على المستويات التنموية كافة. أخيرا؛ لا يوجد أي تحول جذري في أي اقتصاد حول العالم دون أن يرافقه بعض الآلام، إلا أنه رغم كل ذلك تأتي أدنى وقعا وسلبية من استمرار حياة التشوهات الهيكلية المتسببة في ضرورة القيام بتلك الإصلاحات والمعالجة، خاصة إذا كانت تلك التشوهات واسعة الانتشار، وآخذة في التفاقم عاما بعد عام كما هو قائم في المشهد التنموي والاقتصادي المحلي. يمتلك الاقتصاد الوطني الكثير من الإمكانات والموارد الكافية، للتحول نحو الهيكلة اللازمة لتحقيق أهدافه التنموية مهما بلغ سقف طموحاتها، لا ينقصه في هذا الإطار سوى تحديد الاستراتيجية أو الرؤية الشاملة "أي الكيفية"، وهو الشرط الوحيد الذي لا يتوافر لدى أغلب الاقتصادات حول العالم، التي تفتقر إلى كثير من المزايا والإمكانات المتاحة للاقتصاد السعودي! سيظل الحديث المبين هنا محصورا في نطاقه النظري، وفي المقابل سنظل ندور في حلقة مفرغة من التعاطي مع تلك التشوهات، طالما بقيت هذه الرؤية حبيسة الأدراج وعدم التطبيق، وكلما زاد هذا الافتراق بين ما يجب القيام به، وامتد وقت تأخير تنفيذه من جانب، وبين ما يجري على أرض الواقع من تفاقم لتلك التحديات والتشوهات من جانب آخر، أدى ذلك إلى ارتفاع فاتورة الإصلاح والمعالجة، وأدى كذلك إلى زيادة الآثار السلبية تنمويا واقتصاديا، ما يدعو بالضرورة القصوى إلى حتمية مواجهتها على وجه السرعة. والله ولي التوفيق.
إنشرها