Author

منصة قفز معطلة

|
لا يستطيع السباح الاستعراضي الماهر إبراز حركاته البهلوانية إذا كانت منصة القفز معطلة، وهذا تماما ما يحصل للشاب الذي يبدأ ممارسة حياته إذا فقد القدرة على تحديد أهدافه بدقة، بل حتى السباح العادي الذي يتطلع إلى قطع المسافة بدون أي تميز، يتعرض لإصابات بليغة إذا قفز من منصة معطوبة. يعتبر تحديد الأهداف منصة القفز الأساسية لتحركات الشاب المستقبلية، لا تعمل فقط كعنصر محفز مهم، وإنما هي كذلك قاعدة أساسية للتحرك. يعبر المرشدون عن هذه المشكلة التي تواجههم حين يهمون بمساعدة الشباب على اختيار تخصصاتهم أو تقييم خياراتهم الدراسية، وهي مشاهدة كذلك حتى لدى شباب الأعمال، الذين يعزمون على تأسيس المشاريع بدون رؤية واضحة للمستقبل أو استراتيجية محددة للتخارج، بل إن بعضهم يظن أنه من السذاجة النظر إلى هذه الأمور التي قد يعاملها وكأنها من الغيبيات التي يحظر الحديث عنها. لا تفقد الاستراتيجية قيمتها حتى لو تعرضت للتغيير، وهذا أصلا ما يحدث في معظم الحالات. غياب الاستراتيجية على المستوى الفردي يعني هشاشة في منصة الانطلاق، وهذا ما يحول الاختيارات من خطوات ضرورية متتابعة إلى حوادث مدمرة يصعب التخلص من آثارها. إن تحديد الأهداف مكون أساسي ودائم في بناء الاستراتيجية الشخصية. يقع بعض الشباب في معضلة وهمية كبرى، فهو لا يعرف ماذا يختار ولا يعرف ما يتاح له من خيارات واقعية ليختار منها! وإذا عرف خياراته افتقد الدوافع الذاتية والعوامل الخارجية التي يفترض أن تدعم اختياراته. وإذا عدنا معه إلى أهدافه الحياتية لا نجدها هشة فقط، إنما غير موجودة أساسا. حينها تصبح قراراته تحت ضغط الوقت مجرد ضربة من نوع "يا تصيب، يا تخيب". تحديد الأهداف فن قابل للتطوير ومهارة يمكن اكتسابها. الجميل في الأمر أن الذي يعتاد على هذه المهارات يتمكن من تجييرها لمصلحته في مواقف متفرقة وعلى مختلف مراحل حياته. هي ليست خطوة أولية يتم الاستغناء عنها لاحقا، بل ثقافة تتواءم مع المتغيرات، واستثمار شخصي ذو مردود عال جدا. يعيد بعض المختصين هذه المشكلة إلى ضعف الوعي بالذات لدى الشريحة العظمى من شبابنا، الذي يعود لأسباب اجتماعية وتربوية، مردها في النهاية البيت والمدرسة. المشكلة أن تنمية الوعي بالذات لدى الأطفال لا تبدأ إلا بعد التأكد من وجودها بشكل قابل للتمرير لدى الكبار آباء ومعلمين، وهذا أمر لا يحدث من تلقاء نفسه، إنما يحتاج إلى برامج وتوجهات يتم تصميمها ومن ثم تطبيقها بعناية واهتمام. هل يحدث أي من هذا اليوم؟! بالطبع أسهمت دورات وأنشطة تطوير الذات في تنشيط هذا النوع من المفاهيم والأفكار، لكنها في نظري لم تنتشر بعد الانتشار المطلوب؛ كان التأثر منحصرا فيمن يبحث عنه باختياره. أي أن التحسن منحصر في الطلب الذي لا يكفي لحل المشكلة على المستوى الجمعي، ولا بد من الدفع بشتى الاتجاهات حتى تتحسن عند متخذي القرارات من الشباب. ومع أن مثل هذه القرارات تظهر للوهلة الأولى وكأنها قرارات شخصية بحتة، إلا أنها قاعدة أساس لكل قرارات المجتمع في المستقبل، فجودة الأفراد هي ما ينمي المجتمع ويحدد مصيره. تكثر النماذج التي تربط بين تحديد الأهداف والإنجاز على المستوى الشخصي، ومعظمها يرسم خطا متصاعدا يبدأ بالوعي والمعرفة التي تتحول إلى مخطط للتنفيذ يكتسب إلهامه من الرغبات الشخصية ويحدد شكله الواقع. اتخاذ القرارات الشخصية بدون خطة مخاطرة بالغة جدا، هي مخاطرة مميتة للتطلعات والتوقعات التي لن تخرج من دائرة الأحلام، لتصبح مع مرور الوقت أقرب إلى المستحيل. في المقابل يشكل تحديد الأهداف وتقسيمها حسب الإطار الزمني موافقة منطقية للواقع، تعيد من تشكيل التطلعات وتحولها بالتحفيز الذاتي إلى خطوات وحقائق مشاهدة ومحسوسة. حل مثل هذه المشكلات يبدأ من توعية الأسر والمعلمين، ولا أعلم لماذا لا نرى حتى الآن مبادرات مخصوصة موجهة للآباء، خصوصا الآباء الجدد؛ لا ننسى أن التكوين السكاني الشاب يشير إلى أن المشكلة ستتضخم إن تجاهلناها لفترات أطول. وبالطبع للمدارس الدور الأكبر هنا والمساحة الأكثر اتساعا لمعالجة مثل هذا القصور. لا يهم إن تم إيجاد الحل عن طريق النشاط المنهجي أو اللامنهجي دام أن التعامل يتم بجدية مع الهدف المنشود. لن يقبل السباح المحترف بمسبح يقوم على منصة إطلاق معطلة. ولا يريد الشباب أن تتحول حياتهم إلى سباحة عشوائية بدون قفزات وتميز وإنجازات، فالعشوائية مع غياب التخطيط لن تصنع أي نتائج.
إنشرها