ثقافة وفنون

من اللغة الأبجدية إلى اللغة السمعية البصرية .. فروق وآليات

من اللغة الأبجدية إلى اللغة السمعية البصرية .. فروق وآليات

الفرق الأساسي بين اللغة الأبجدية واللغة السمعية البصرية يكمن في أسبقية تحريك العقل وعملياته العليا ومهاراته التجريدية بالنسبة للأبجدي من جهة، وبأسبقية الجسد والانفعال والإحساس والوجدان بالنسبة للسمعي البصري، فكيف يمكن الحديث عن ترجمة وانتقال بينهما علما بأن الأدوات والوسائل وآليات بناء التعبير والتصورات والدلالات تختلف جذريا بينهما؟ ثم ماذا لو كان العمل المراد ترجمته من السمعي البصري إلى الأبجدي أو العكس منتوجا فنيا عالي القيمة أي ذا تعبير خاص ومستحدثُ "العلامات" و"الرموز" حسب اللسانيين؟ تعريف الفن وفقا لدراسة أعدها الباحث سعيد القري حول هذا الموضوع فإن تعريف الفن في هذه الحالة سيجنبنا بعضا من الغموض والخلط السائدين في هذا الميدان فما الفن وما أهم تعريفاته؟ الفن ليس نقلا حرفيا للواقع، ولا تشويها له. بل هو كما يقول الفيلسوف الألماني "ف. ج. هيجل" تجاوز للطبيعة ووعي بعدم إمكانية محاكاتها. إن الفن الرفيع والحالة هذه، يحتاج بالضرورة إلى ذات مؤهلة لاكتشافه كما يؤكد ذلك العديد من المفكرين. في هذا السياق يقول المفكر المغربي عبد الله العروي على لسان إدريس الشخصية الرئيسية في الكتاب/ السيرة الذهنية "أوراق": "... ارتقى إدريس من مستوى الاستهلاك إلى مستوى التذوق، أدرك أن أصالة الفن السينمائي تكمن في كونه ملتقى الفنون الأخرى من أدب وموسيقى ورسم وطراز معماري وغناء ومسرح. كل فن لا يعرف إلا بالممارسة..." إن التمتع بالفن الرفيع كما إنتاجه، قدرة على الانخراط والمشاركة في معمعة ثنائية تخلقها ذاتان: ذات مبدعة وذات متذوقة، كلاهما بلغت درجة عالية من التواصلية. هكذا إذن أعتقد أن ترجمة الأعمال السمعية البصرية تستدعي بالضرورة تجاوز التفسير إلى التأويل، وذلك بالنظر إلى كل ما أفضنا فيه القول حول الاختلاف الكبير بين خصوصيات التعبيرين وما سنعمقه أكثر في ذلك لاحقا. كتابة متعددة إن الكتابة السمعية البصرية كتابة متعددة المستويات الدلالية. لذلك فنظرية الباطن والظاهر الموجودة عمليا في كل شيء، وموجودة بالضرورة وفوق العبث عن المعقولية في كل ما هو إنساني فني عميق التواصل مع العالم وإشكالياته الكبرى، تنطبق على الإنتاج الفني الراقي منه على وجه الخصوص أكثر مما تنطبق على غيره. ومن هنا فإن التأويل هو الأداة العقلية الأكثر نجاعة ومردودية وملاءمة في عملية "ترجمة" السمعي البصري إلى الأبجدي والعكس صحيح. إن التأويل هو المفهوم الأسلم كأداة للمرور من الأبجدي إلى السمعي البصري، عوض الحديث عن الترجمة بمعناها التفسيري. نقول هذا ونحن نعلم أن الترجمة نفسها قد تستدعي أحيانا الاستعانة بالتأويل. كما يمكن القول ردا على كون السيناريو كتابة أبجدية، باعتباره أساس الفيلم السينمائي والتلفزيوني، بأن السيناريو بمعناه المحترف ليس إلا مشروع صور ومناخات، مخطوطة على الورق بلغة أبجدية صحيحة، ولكنها لغة إيحائية بشكل قوي على التخيل والتخييل، تركز على الوقائع والمواقف الدرامية، وتصف أوضاعا وأحداثا وانفعالات تقع في صميم التجربة الإنسانية. يرسم هذا المخطوط – السيناريو - تقاسيم الشخصيات الأساسية والفاعلة في الحكاية ويضع لها سمات مميزة. ويكتب كل هذا في سيناريو الفيلم بأسلوب غير أدبي إن صح التعبير، أي أنه يكتب بأسلوب مُسَتندا إلى قدرة تبليغية عالية على مستوى التخييل والتصور الذهني المُشخص، وذلك بالنسبة لأصحاب تقنية "تخصيب الأفكار". نحن إذن في هذه الحالة أمام انتقال من تقليد تعبيري إلى آخر، من عصر اليدوي العقلي إلى عصر الآلي الإلكتروني، والتعارض هنا قائم بين أسلوب تعبير إنساني فردي ويدوي من جهة، وأسلوب تعبير إنساني جسدي انفعالي مزروع فيه الإلكتروني كوسيط بمنطقه الخاص وبتقاليده الجماعية في الإنجاز. يقول "ميشال أورلانديني" وهو مدير الإبداع في وكالة إشهارية: "... على المبدعين أن يفكروا بمشاعرهم أكثر من ذكائهم، فينبغي للإبداع السمعي البصري أن يوظف الشحنات الانفعالية فكاهية كانت أو درامية أو تعاطفية. فمن الأساسي تخزين الانفعالات اليومية واسترجاعها كاملة في اللحظة المرغوبة، فمعرفة تبليغ الاهتزازات وكيفية المشاهدة والملاحظة مهنة، بل عقيدة حتى". خصوصية وشواهد إن الاختلاف بين اللغتين الأبجدية من جهة، والسمعية البصرية من جهة ثانية أمر سيقت فيه شواهد علمية وأدبية متعددة. فقد أكدت اختبارات نفسية وفيزيولوجية أجريت على مشاهدين للتلفزة وللسينما من جهة، كما أجريت لقراء الأبجدي المكتوب من جهة ثانية، وذلك بواسطة ربطهم بجهاز قياس الإشارات الدالة على نشاط الدماغ عند تلقي اللغتين الأبجدية والسمعية البصرية، دلت على اختلاف درجة تشغيل فصي الدماغ عند استعمال أو تلقي اللغتين. فقد تبين أن الفص الأيمن المسؤول عن الانفعال والعواطف والفهم الكلي للأشياء، يشتغل أكثر مع السمعي البصري من تلفزة وسينما.. في حين أن الفص الأيسر المشرف على وظائف التحليل والتجريد وإدراك التفاصيل والربط المنطقي الاستدلالي يشتغل أكثر كما يحدث منذ قرون، مع اللغة الأبجدية. ولا يجب أن يُفهم من هذا الفصل بين اللغتين المقارنتين هنا، وجود انفصال بينهما على غرار الفصل بين المتحضر والمتوحش لدى الأنثروبولوجيين الكولونياليي النزعة، بل ينبغي القول إن الأمر يتعلق بطريقتين في الفهم، تختلف أولوياتهما الترتيبية مع حدة تميز أكبر كلما تعلق الأمر بفن مسبوك بإبداعية عالية. ومن المؤكد أن هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات بين اللغتين له انعكاسات على ما يثيره ويطوره كل منهما أكثر لدى المتلقي من قدرات ذهنية أو أنماط سلوكية من خلال التجارب الانفعالية. يستلزم إنتاج واستهلاك السمعي البصري من جهة أخرى، امتلاك القدرة على الانغماس في مناخ "سحري" ينبغي على صانعي هذا المنتوج حيازة الحساسية الكافية لإنتاجه. ويتم إنتاج هذا "السحر" الأخًّاذ في السمعي البصري عند النجاح في خلق "خيمياء" تنسجم فيها كل مكونات الصورة والصوت، مسبوكة في مناخ يكاد يجعلك تلمس الأجساد وتشم الروائح وأنت ترى الصور على الشاشة، عندها تشكل الخطوط والألوان، والظلال والملامح، والحركات المرئية والإيقاعات الصوتية، والحوارات الدالة والأضواء المعبرة أو المانحة للخصوصية التواصلية للأشكال... ويشكل كل ذلك لمقدمة الصورة أو موضوعها هالة روحية هي عبارة عن إطار مُرصَّص، قادر على تحريك الدواخل وجعل المتفرج، حتى اليقظ منه، يسترجع الانفعالات الإنسانية العميقة والكونية في صورها الأكثر استنفارا لكيان الإنسان المعاصر. في هذا السياق أيضا تصبح الجمالية الدالة جمالية المسموع والمرئي في الآن نفسه. وخلافا لما يمكن أن يفهم اختزاليا، فإن هذه الجمالية هي نتيجة لانصهار كلا العنصرين أي، الصوت والصورة في بنية لا تمايز بينهما وليست مجرد حصيلة لتجميعهما تعسفا. لغة خاصة واضح إذن أن اللغة السمعية البصرية لغة خاصة من حيث علاماتها ووحداتها ورموزها ومقاطعها إن نحن تبعنا المكونات اللسانية للغة الأبجدية. من هذا المنطلق إذن يمكن القول إنه لا إبداع مرئيا من دون فهم عميق لـ"منطق" لغة وثقافة السمعي البصري في تميزه، كما نؤكد أن الكتابة للسمعي البصري تحتاج إلى ترجمة وتأويل الأفكار المجردة والتصورات والمقولات والمواقف المتفلسفة، إلى صورة وصوت جسديين ملموسين وحسيين، تمكن الإقامة فيهما والانغماس في هالتهما الروحية وبالتالي الاهتزاز لهما ومعهما. يتميز السمعي البصري من جهة أخرى عن آلية انبناء الأبجدي، الذي يرتبط تقليديا بالاستدلالي العمودي والتجريدي من افتراض واستنباط، بكونه أفقيا أكثر منه عموديا. فنقطة انطلاقه بؤرة متكاملة وممغنطة ينتظم حولها كل المعمار السمعي البصري الفني للحكاية سينمائية كانت أو تلفزيونية. تشكل هذه البؤرة الغاوية للعناصر التي ستكمل بناءها قطب الرحى الذي يخلق "سُرًّة" تجميع وتراص بقية العناصر حولها، وذلك حسب شكل هذه العناصر وصلاحيتها في اقتصاد السرد وجرعة الانفعالات المراد إثارتها لدى المشاهد. تحكم منطق هذا التراص تلقائية الوقع على الجسد وإن كان التصور مبيتا أي، مفكرا فيه ومصمما عقليا كاختيار وكرؤية. إن "التراص والترصيص" كتقنية للحفاظ للكتابة السمعية البصرية على هالتها وإدهاشها وجسديتها، إنما يتم بهندسة النقطة بجانب نقطة ولون بجانب لون وتصميم بجانب تصميم، ولقطة بجانب لقطة ومشهد بجانب مشهد، لتنبثق عن ذلك في النهاية الحكاية، والصورة النهائية للعمل الفني. ومعلوم أن عملا بهذه الكيفية ينبغي له منذ البداية أي منذ اللقطة والحركة والكلمة الأولى، أن يوضع على سكة المناخ الماسك بالتلابيب الانفعالية والتخييلية للمشاهد. وإذا حدست حساسية الفنان ذلك وأصابت، وجد ذلك المناخ الذي قال عنه الكاتب والروائي التشيكي الشهير "ميلان كونديرا" بأنه يجعل الوقائع والشخصيات تتتالى وفق منطقها الخاص الذي يجعل الكاتب في النهاية مجرد تابع يدون ما تمليه عليه. إذا تمت عملية الكتابة بالتراص والترصيص، سهلت إلى حد كبير اللحظة الأخيرة في إنجاز العمل السمعي البصري وهي العملية التي تتم وفقا لمخطط وحساسية التراص والترصيص: إنها عمليتا التركيب والمزج. ذلك أن الإيقاع والتدفق الدرامي يكونان متوافرين في المادة السابقة الفائضة روحا وديناميكية، لأن بؤرة التراص تكون قد فرضت خط الاستمرار وطابعه العام. ومهما يكن من أمر، فينبغي أن لا ننسى بأن حديثا متقنا بلغة الكلام عن السمعي البصري ليس في نهاية المطاف إلا ترجمة لحديث كان من المفروض أن يكون باللغة السمعية البصرية. ومع ذلك فقد برهن كبار النقاد السينمائيين وكبار الكتاب للسينما كما المخرجون المبدعون، أنه بالإمكان إبداع نص أبجدي يضاهي متعة عملا فيلميا جميلا. إلا أن إبداع نص نقدي مكتوب عن فيلم أو إلى جانبه على طريقة تقنية التراص والترصيص، ستتطلب بالضرورة أن يكون الفيلم نفسه إبداعا حقيقيا، إذ لا يخرج الحي من الميت إلا العلي القدير، أما الذي يحدث في أغلب البلاد العربية فهو اعتداء على السمعي البصري حيث لا فرق لدى "الكلاميين" بين السينما والتلفزيون من جهة، وبينهما الاثنان واليومي الاعتيادي بل الرديء في الغالب الأعم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون