Author

تحرير أسعار الطاقة .. ألم لا بد منه

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
إنه الاختبار الحقيقي لمتانة السياسات الاقتصادية، التي طالما وصفها القائمون عليها في أروقة أجهزتنا الاقتصادية والمالية بالحصيفة، كلما هربت من مواجهته أسعفتها أسعار النفط بالارتفاع! ها هو يعود من جديد هذه المرة إلى دول منطقة الخليج العربي بوجه قد يكون أكثر شراسة، وتحت ظروف اقتصادية واجتماعية أكثر صعوبة من الماضي. ليس فخرا للكاتب هنا أن يذكر بما كتبه في هذا الخصوص قبل عدة سنوات مضت، بقدر ما أنه مؤلم ألا تجد آذانا صاغية تجاه أحد أهم شؤوننا الاقتصادية، بل التنموية بمعنى أكثر دقة وتحديدا. حينما طرحت الآراء العديدة من قبل المختصين في تلك الفترة، حول ضرورة أن تسعى الأجهزة الاقتصادية لدينا دون تأخير إلى تجاوز هذا المطب التنموي في وقت الرخاء قبل وقت الشدة، والاعتماد على خيارات واسعة جدا كانت في اليد حينئذ، قبل أن تتقلص أو حتى ينتفي وجودها، وليس أسهل على أي اقتصاد من إتمام إصلاحاته الهيكلية في وقت رخائه، الذي يحتفي خلاله بالمتانة اللازمة لامتصاص أي آثار موجعة لها، مقارنة بإجرائها في مرحلة معاكسة سيواجه خلالها صعوبات جسيمة أخرى، ستضاعف آثار تلك الإصلاحات إن تمت خلالها من الآلام على الاقتصاد والمجتمع على حد سواء. كان ممكنا أن تأتي آثار الإصلاحات الهيكلية المنشودة في تلك المرحلة أخف وطأة؛ حينما كانت أسعار النفط تسبح فوق سقف الـ 100 دولار أمريكي، وكانت فوائض الميزانية العامة تراوح بين 14 في المائة (2012) إلى 33 في المائة (2008)، لتسهم في تشكيل احتياطيات مالية ضخمة غير مسبوقة فاقت حجم الاقتصاد الوطني. إلا أنها اليوم، قد أصبحت واقعا يفرض نفسه بدأ يطل برأسه في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، وعلينا أن نتجاوزه هنا مهما ارتفعت تحدياته، ومهما بلغت تكلفته، التي لا تقارن آثارها الموجعة بآثار ديمومة عدم إجراء تلك الإصلاحات الهيكلية، ومنها تحرير أسعار الطاقة في الاقتصاد المحلي. لتبسيط الفهم حول ما يتم اتخاذ عديد من القرارات والإجراءات حوله في اقتصادات دول المنطقة، قدمت الحكومات الخليجية طوال العقود الماضية دعمها المتفاوت لاستهلاك موارد الطاقة المختلفة، وكانت السعودية من أكثرها سخاء في هذا الجانب، واقتضت احتياجات التنمية الشاملة خلال العقود الماضية للقيام بمثل هذه الإجراءات، وحققت جزءا كبيرا من أهدافها المرحلية خلال تلك الفترات الماضية، إلا أنه مع التحولات المحلية قبل العالمية، ظهرت الحاجة إلى ضرورة التخلي تدريجيا عن تلك السياسات، وقدمت عديدا من النصائح في هذا الجانب من قبل عديد من الهيئات والمنظمات الدولية، دع عنك الصادرة من الداخل التي لا تجد في الغالب من يلتفت إليها. ولتكون الصورة أكثر وضوحا للقارئ الكريم؛ تقف الإعانات الحكومية لأسعار استهلاك موارد الطاقة من كهرباء وغاز ومحروقات وغيرها، خلف الانخفاض في فواتير استهلاك تلك الموارد، وعادة ما تقاس تلك الإعانات الحكومية بالفارق بين كل من أسعارها في السوق المحلية مقارنة بالأسواق العالمية، على سبيل المثال كاستهلاك الكهرباء، عوضا عن أن يدفع المستهلك المحلي رسوم الكهرباء اعتمادا على التكلفة الحقيقية لإنتاجها "الأسعار العالمية للوقود المستخدم في إنتاج الكهرباء"، تتحمل الحكومة دفع الفارق بين تلك الأسعار العالمية للديزل وزيت الوقود والزيت الخام والغاز الطبيعي المستنفدة لإنتاج الكهرباء، ورسوم الاستهلاك التي يدفعها مختلف شرائح المشتركين في الكهرباء، بمعنى أنه لو غابت هذه الإعانة الحكومية المعممة، التي لا تفرق بين المستهلك المحدود والمتوسط الدخل الأكثر احتياجا لها، وذلك المستهلك الثري جدا، أقول لولا تلك الإعانة لرأيت فاتورة الكهرباء التي يدفعها المواطن بقيمة 200 ريال شهريا على سبيل المثال، أنها قد تتجاوز في غيابها نحو 1000 إلى 1200 ريال، وكذا الحال بالنسبة لوقود السيارات، التي قد تتطلب من المستهلك المحلي في المتوسط الشهري نحو 100 إلى 200 ريال لتزويد سيارته بالوقود، أن يدفع في غياب تلك الإعانة خمسة أضعاف هذا الرقم أو أكثر، وهكذا بالنسبة لبقية السلع والخدمات التي تستنزف عشرات المليارات سنويا من الموارد الناضبة للاقتصاد والبلاد. هذا باختصار شديد ما يجري الحديث عنه في الوقت الراهن، أرجو ألا يخل اختصاره هنا بالفهم الدقيق والشامل لكامل الموضوع. توجد رؤيتان مختلفتان تماما تجاه هذا الملف؛ الأولى: ترى السحب التدريجي للدعم الحكومي "أو التحفيز"، وتركيزه في نطاق محدود جدا على الشرائح الاجتماعية الأدنى دخلا، عبر عديد من البرامج الحكومية المقترحة كبطاقات التموين لتلك الشرائح، ودون إجراء أي تعديلات أو زيادات على أجور العاملين في القطاعين الحكومي والخاص. وتتبنى هذا التوجه الهيئات والمنظمات الدولية في مقدمتها صندوق النقد الدولي. أما الرؤية الثانية: فرغم أنها توافق الرؤية الأولى في ضرورة السحب التدريجي للدعم أو التحفيز الحكومي، إلا أنها تختلف عنها في البرامج الموازية لعمليات السحب، لاهتمامها بعدد من الاعتبارات الأخرى، لعل من أبرزها: (1) انخفاض مستوى الأجور الحقيقية لأغلب المواطنين، الذي يعتبر المؤشر الحقيقي لدخل الأفراد، مقارنة بغيره من المؤشرات غير الدقيقة التي تستند إليها تلك الهيئات والمنظمات، وكونه الدخل الحقيقي المقابل لأعباء المعيشة الفعلية التي يكابدها الفرد "الإيجار المرتفع للمسكن، فاتورة استهلاك السلع والخدمات الضرورية"، التي تستقطع الجزء الأكبر من الدخل السنوي له، وهي المشقة التي لم تعد تفرق بين محدودي الدخل أو متوسطي الدخل. (2) غياب بدائل النقل داخل المدن والمحافظات، التي بدأ العمل على تطويرها متأخرا، ويتطلب اكتمال جاهزيتها سنوات عديدة قادمة. لهذا تحمل البرامج الموازية لهذه الرؤية حال القيام بالسحب التدريجي للدعم الحكومي على الاستهلاك المحلي لموارد الطاقة، عديد من الاقتراحات اللازم الاهتمام بها وتنفيذها، فلا تقف عند مجرد إصدار بطاقات تمويلية للشرائح الاجتماعية الأدنى دخلا فقط، بل تتجاوزها إلى ضرورة زيادة مستويات الأجور السنوية للعاملين من المواطنين، بالتركيز الشامل على الشرائح المتوسطة الدخل فما دون، الذين يشكلون أكثر من 90 في المائة من العمالة في القطاعين الحكومي والخاص، وإن كانت النسبة ستكون أعلى بالنسبة للعاملين في القطاع الخاص. ختاما، لا يكفي ما تقدم من حيث مناقشة تفاصيل ملف تحرير أسعار استهلاك الطاقة محليا، فهو يتطلب مزيدا من النقاش حوله، فلا بد من التطرق إلى آثار استدامة الوضع الراهن، التي يغلب على أكثرها الصفة السلبية، بدءا من ذهاب أغلب الدعم الحكومي هنا للشرائح غير المستحقة له من الأثرياء وغير المواطنين، مقابل محدودية الفائدة الفعلية للشرائح المستحقة له من أفراد المجتمع، وانتهاء بارتفاع فاتورته على كاهل الاقتصاد الوطني، وتسببه في زيادة اعتماد أغلب منشآت القطاع الخاص عليه، وانخفاض إنتاجيتها، إلى الدرجة التي أصبحت أغلب هوامش أرباح تلك المنشآت تعتمد بنسبة 100 في المائة على تلك الإعانات الحكومية! وسيمتد الحديث -بمشيئة الله تعالى- إلى الإيجابيات المأمولة من الإصلاحات المرتقبة على هذا الملف، شرط أن تسير وفق الرؤية الثانية المذكورة أعلاه، وبعيدا عن مغامرات الرؤية الأولى، وإلى الملتقى قريبا، لاستكمال الحديث عن بقية المحاور. والله ولي التوفيق.
إنشرها