العالم

السلوك الإرهابي يتفاقم بفعل «الديناميكية الجماعية»

السلوك الإرهابي يتفاقم بفعل «الديناميكية الجماعية»

السلوك الإرهابي يتفاقم بفعل «الديناميكية الجماعية»

يقدم حقل علم النفس، العديد من الأفكار القيّمة لتعزيز الأمن الإنساني. ومن أهم مجالات الاهتمام الأكاديمي المؤثرة في الأمن الإنساني اليوم، مجال علم نفس الجماعات الإرهابية؛ نتيجة لانتشار الجماعات الإرهابية؛ ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في جميع أنحاء العالم، وتنوع أشكالها من إرهاب ديني إلى إرهاب علماني. ويعتبر البروفيسور جون هورجان من أبرز علماء حقل علم النفس السياسي، خاصةً علم نفس الجماعات الإرهابية، وهو مدير مركز الإرهاب والدراسات الأمنية في جامعة Massachusetts Lowell. ويعد كتابه الجديد في طبعته الثانية "سيكولوجية الإرهاب" واحدًا من أهم الكتب في مجال التحليل النفسي للإرهابيين؛ إذ إنه يستحق انتباهًا دقيقًا من قبل الباحثين والممارسين، كالقادة ورجال الأمن وصناع القرار والدبلوماسيين والعسكريين. ركز هورجان تحليله على إرهاب الجماعات المسلحة من دون الدولة. ويميز تحليله بين الجهود القديمة من أجل فهم "عقلية الإرهابي" وبين الجهود الحديثة التي تكشف حقائق مهمة عن التطور السيكولوجي لانضمام الأفراد إلى الجماعات الإرهابية أو تركهم إياها. اختتم هورجان الطبعة الأولى من الكتاب بنتيجة فحواها أن دراسة سيكولوجية الإرهاب حقل غير متقدم. وأرجع التوقعات المخزلة بشأن ذلك الحقل إلى الذين يسعون إلى حلول سريعة وبسيطة لإشكالية الإرهاب، كما أن الساسة وصناع القرار لم يأخذوا بعين الاعتبار الإسهامات الأكاديمية في مكافحة الإرهاب، وقد أكد نتيجة مشابهة في طبعته الثانية مضيفًا أهم التطورات الإشكالية التي ظهرت أخيرًا في دراسات الإرهاب. #2# يظل هدف الكتاب في طبعته الثانية تشجيع مزيد من التفكير في تفسير سلوك الإرهابي وكيفية تطوره. ولكن لا يَعِد هورجان في مقدمه كتابه بطرح حلول حول تلك المعضلة المعقدة؛ إذ يعترف بعدم وجود حلول نهائية لها. وقد تكون المعضلة اليوم باتت أكثر تعقيدًا مع نجاح الإرهاب في تطوير ذاته وتكيفه مع التغيرات البيئية المحيطة به. أوضح هورجان جليًّا ما إذا كانت التطورات في حقل علم النفس قد تحمي حياتنا. وفي ذلك يقول: " نواجه الآن مطالب ملحة لتطوير فهم صريح ومستقيم لعملية تحول الأفراد والجماعات إلى الإرهاب والتطرف، وكيف يستطيع صانع القرار توظيف تلك المعرفة في تطوير وتنمية مبادرات مكافحة إرهاب فعالة". تطور عقلية الإرهابي يؤكد هورجان بشدة أن البحث عن سلوكيات الإرهابي دراسات واعدة. وهنا يركز على مراحل تحول سلوكيات الإرهابي، من مرحلة تحول الفرد إلى متطرف، ثم تورطه تنظيميًّا داخل تنظيم إرهابي، ثم انخراطه في العمليات الإرهابية، ثم قد تأتي مرحلة فك ارتباطه عن التنظيم في حالة انشقاقه عنه. وفي ذلك يرى هورجان أن أهم مرحلتين في تطور سلوكيات الإرهابي هما المرحلتان الأولى والثانية اللتان تتعلقان بتكوين فكره وعقيدته المتطرفة لإعداده في الانخراط السريع في العمليات الإرهابية. ومن ثم، هناك أربعة أنماط مميزة في العقلية الإرهابية بغض النظر عن الدافع، وهي على النحو التالي: 1) يبدأ الطريق إلى الإرهاب بظهور شعور قوي للفرد بالاغتراب، وأنه ضحية، والإيمان بأن أفعال وجرائم العدو ليست أخلاقية، ليجد مبررات أخلاقية - من وجهة نظره - في ارتكاب العنف. العامل الثاني الملحوظ في دفع الفرد إلى التطرف هو أن بعض الإرهابيين لديهم "عقلية إجرامية" قبل انضمامه إلى تنظيم إرهابي. وعلى الرغم من إجماع الباحثين على أنه لا توجد لحظة محددة يتحول عندها الفرد إلى إرهابي، فإن وقوع الفرد ضحية يولد عنده الشعور بالانتقام؛ ما يدفعه إلى الانضمام إلى الجماعات الإرهابية، التي قد يجدها تتبنى قضيته. 2) الحياة داخل الجماعة: يركز الاهتمام البحثي في دراسة عقلية الإرهابي على ملاحظة الهوية الجمعية لا الفردية؛ فالسلوك الإرهابي - سواء كان إرهابًا دينيًّا أو علمانيًّا - يتطور بفعل الديناميكية الجماعية. وتفترض إحدى النظريات أن الأشخاص أثناء وجودهم في جماعات، يميلون إلى اتخاذ قرارات ذات مخاطر عالية، باعتبار أن المخاطرة مشتركة، فهي ليست مخيفة بالقدر الذي سيشعر به الفرد إذا ما قام بالمخاطرة بمفرده. فكلما أصبحت الجماعة متطرفة أكثر، أصبح الفرد متطرفًا أكثر. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يمارس على الفرد ضغط اجتماعي كبير من زملائه وقيادته (مباشر أو غير مباشر) يجبره على التماهي مع إجماع الجماعة، وخاصةً عندما تقدم له الجماعة دعمًا ماديًّا ونفسيًّا وفكريًّا. 3) الترسيخ العقائدي: بدون مبررات أخلاقية شديدة الوضوح للأفعال الإرهابية التي يرتكبها التنظيم الإرهابي لأفراده، يتعرض التنظيم لخطر الانشقاق الداخلي، وقد ينحل التنظيم من تلقاء نفسه. وهناك مفارقة واضحة في عقلية الإرهابي؛ فإذا كان هدفه خلق عالم مثالي ينتصر فيه للأبرياء من جماعته المضطهدة، فكيف له أن يقتل أبرياء آخرين ليصل إلى هدفه؟! ولكي يخرج الإرهابي نفسه من ذلك التناقض يقنع نفسه بأنه لا بد من التضحية ببعض الأبرياء لتحقيق هدفه الأخلاقي. 4) الانخراط في الجرائم الإرهابية: يعبر الانخراط في العمليات الإرهابية عن قمة مظاهر الترسيخ العقائدي، وتمثل الأعمال الانتحارية أبشع الأعمال الإرهابية إجرامًا. وقد تختلف الدوافع وراء ذلك، مثل الشهادة لدى الجماعات الإسلامية، والرغبة في القيام بعمل مشرف، والقيام بذلك من أجل رمز أو قائد، أو بدافع الانتقام، أو بدافع الضغط من قبل الجماعة، أو الدعم المادي الذي ستحصل عليه أسرة الانتحاري. كيف يتوقف الإرهابي عن الإرهاب؟ كما يتباهى تنظيم "داعش" بتجنيده الواسع النطاق من مناطق مختلفة في العالم، ويستعرض جنوده الأوروبيين في فيديوهات قطع الرؤوس، إلا أنه في الوقت نفسه يترك بعض الإرهابيين التنظيم، سواء بالخروج الهادئ ثم الاختفاء بعدها، أو البعض الآخر يروون قصصهم السابقة مع الإرهاب، سواء على شاشات التلفاز أو في صورة كتابة سير ذاتية. يركز هورجان في أحد فصول كتابه على تفسير كيف يترك الإرهابيون تنظيماتهم الإرهابية، وكيف تعمل برامج اجتثاث التطرف De-Radicalization Programs للمساعدة على تحولهم إلى أشخاص طبيعيين. وفي ذلك يعرِّف هورجان الانفصال Disengagement بأنه عملية التوقف التام للنشاط الإرهابي، وأنه عملية ديناميكية ينتج عنها تحول إلى دور جديد وهوية جديدة خارج التنظيم. وتمثل حالة الانفصال أعلى مستوى من ترك الإرهابي تنظيمه؛ نظرًا إلى أن هناك حالات يغادر فيها الإرهابي التنظيم دون أن يهجر معتقداته ووجهات النظر المتطرفة. وفي ذلك يرى هورجان أن من خداع النفس الاعتقاد بأنه يمكننا علاج مشكلة الإرهاب بطريقة أو بأخرى من خلال برامج اجتثاث التطرف Deradicalization Program، التي لديها في كثير من الحالات سجل من الفشل في جميع أنحاء العالم. كذلك يحذر من تصعيد حملات السخرية ضد الجماعات الإرهابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ووصفهم بالوحشية والغباء؛ لأن ذلك يأتي بنتيجة عكسية، ولا يؤدي إلى مكافحة الإرهاب، بل يجعلهم أكثر تماسكًا. وإذا كان الأمر كذلك فإنه يكشف الكثير عن أنفسنا أكثر مما يكشف عن الإرهابيين. ومن ثم، يجب على مصممي برامج مكافحة الإرهاب أن يأخذوا في الاعتبار كيف يتكيف الإرهابيون السابقون مع تحدي هوياتهم السابقة، وتعريف أنفسهم في مجتمعهم الجديد. وتتميز تلك المرحلة بضرورة تعديل تفاعل الذات مع الآخر، مثل تعلم كيف يمكن تقديم ذاته ووضعه السابق (معالجة الصورة النمطية عن الإرهابيين السابقين)، وتحول شبكة الروابط الاجتماعية للفرد، وتشكيل هوية جديدة. ولكن لا يزال الباحثون والأكاديميون في ريبة من ضمان عدم الانخراط مرة أخرى في الإرهاب، نتيجة لمشاركة الإرهابي السابق عدة أشهر فحسب في برنامج إعادة التأهيل. الحد من المخاطر  يفترض هورجان أن جميع برامج اجتثاث التطرف تشترك في هدف واحد، هو الحد من مخاطر إعادة الانخراط مرة أخرى في الإرهاب، لكنها تختلف في كيفية تحقيق ذلك. فى بعض الأحيان، تساعد تلك البرامج على توفير فرص ملموسة، مثل التدريب المهني، وفرص العمل لبناء حياة جديدة. فيما تفضل برامج أخرى - بما في ذلك السيكولوجيون - التركيز على "تغيير التوجهات" Attitudes Change قبل كل شيء. وفي الوقت ذاته، ليست هناك أدلة كافية تشير إلى أن الذين نبذوا الإرهاب قد عملوا ذلك بسبب أنهم تعلموا طريقة "تفكير مختلفة" حول شرعية وجهات نظرهم. يدفعنا كتاب هورجان إلى التفكير في التساؤل: أيُّها له أولوية الاهتمام البحثي: "لماذا" أم "كيف"؟ يرى المؤلف أنه عندما كان يُسأل: لماذا ينضم الأفراد إلى الجماعات الإرهابية؟ كان يجيب أنه لا يعرف، مثل الإرهابيين أنفسهم؛ لا يعرفون. إذ إنه خلال عدد من مقابلاته بإرهابيين سابقين، عندما كان يسألهم: لماذا انضممت إلى الإرهاب؟ أجاب العديد منهم أنهم أنفسهم لا يعرفون. كما أنه في أي حركة إرهابية، تعتبر الدوافع وراء الانخراط في الإرهاب عديدة ومتداخلة. وهي تختلف من وقت إلى آخر، كما تتغير الدوافع عند شخص واحد من فترة إلى أخرى، كما أن الفرد لا يصبح إرهابيًّا بين ليلة وضحاها، بل إنها عملية تستغرق وقتًا طويلاً، ويتعرض لعملية تدريجية من التنشئة الاجتماعية. ومن ثم، يعتبر هورجان أن نقطة الانطلاق الكبرى في دراسات الإرهاب الحالية تتمثل في الإجابة عن السؤال: "كيف"؟ ؛ كيف يصبح الأفراد منخرطين في الإرهاب؟ كيف يُناط لهم دور معين في التنظيم الإرهابي؟ كيف تجندهم التنظيمات الإرهابية؟ كيف تنشأ الثقة بينهم وبين من يجندهم؟ وقد انتشرت أخيرًا أشكال التجنيد من خلال الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.وفي ذلك، يشير هورجان إلى مسؤولية الحكومات الغربية عن انتشار الإرهاب، سواء نتيجة فشل سياسات مكافحة الإرهاب التي تتبعها الحكومات الغربية، أو بسبب تولد الشعور بالانتقام لدى أقارب بعض الضحايا الذين تعرض ذووهم لغارات طائرات بدون طيار، على سبيل المثال كما في اليمن؛ وذلك نتيجة السياسات الخاطئة في محاربة الإرهاب. ويختتم هورجان بنتيجة خلاصتها أن العلماء المعنيين بدراسات الإرهاب وسيكولوجيته، إذا استطاعوا الإجابة عن كل تلك الأسئلة، سيستطيعون تصميم وصناعة استراتيجية فعالة لمكافحة الإرهاب. ولعل من المفارقات، أن واحدة من أكثر الإسهامات الثاقبة لهذا الكتاب، هو الإشارة إلى فشل مجتمع العلماء في مجال دراسات الإرهاب. وأحد أمثال ذلك الفشل، نقص البيانات، والفشل في تبادل البيانات، سواء بسبب التنافس الأكاديمي، أو بسبب القيود على جمع البيانات. كذلك يواجه العلماء في ذلك المجال قيودًا هيكلية ضخمة تتعلق بإلقاء مسؤولية مكافحة الإرهاب على عاتق القادة، وصناع القرار، والساسة، ووكالات الاستخبارات، مع غياب المعرفة المتماسكة حول مكافحة الإرهاب. كما أنه يلقي الضوء على تحدٍّ آخر في غاية الأهمية، يتعلق بالحرية الأكاديمية المتاحة للباحثين في مجال دراسات الإرهاب؛ إذ يرى أن قبول الأكاديميين تمويل أبحاثهم من قبل الحكومات، على سبيل المثال، من قبل وزارة الأمن الداخلي أو وزارة الدفاع الأمريكي، فإنهم تلقائيًّا يفقدون استقلالهم الأكاديمي تحت اسم أبحاث مكافحة الإرهاب؛ حيث يتقيدون بالأجندات البحثية المحددة من قبل الدولة، ومن ثم يتم التركيز على إرهاب الجماعات المسلحة من دون الدولة مع تجاهل إرهاب الدولة. وخلاصة القول: يؤكد هورجان أنه لا أحد يعرف كيف تتم مكافحة الإرهاب بشكل أفضل؛ لأنه لا توجد بحوث صحيحة في ذلك المجال، ولا يستمع الساسة لتلك المعرفة إذا وجدت. ويعترف بأن تلك الصورة قد تكون محبطة، لكنه يؤكد أنه قد يكون الوقت قد حان للتغلب على القيود الهيكلية والسياسية والنفسية لاستمرار انعدام الأمن الوطني والعالمي. وفي نهاية المطاف، فإن الاستنتاج الأهم في ذلك الكتاب هو الدعوة إلى فكر جديد حول الإرهاب وكيفية مواجهته، مع زيادة نجاحات الإرهاب العالمي. *أستاذ مساعد في كلية العلوم السياسية - مصر
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم