Author

عار أوروبا الإنسانية

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"مستحيل.. مستحيل منع أولئك الذين يأتون عن طريق البحر. هذا شيء لا يمكننا القيام به، ولا أوروبا أيضا". نيكوليني جوسي، عمدة لامبيدوزا الإيطالية تراجعت أعداد الغارقين في البحر المتوسط، من أولئك الفارين نحو أوروبا. لكن أوروبا ما زالت غارقة في قضية (أزمة) اللاجئين. فالغارقون انخفضوا إلى العشرات بدلا من المئات يوميا، وهذا يعد "نصرا" لأوروبا من جانب بعض المسؤولين فيها. غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق. فخفض أعداد الضحايا لا يشكل انتصارا، بل هو"فشل أقل"، وسيبقى يحمل هذا التوصيف، إلى أن يتم الوصول إلى صيغة ناجعة عملية واقعية إنسانية، لأزمة اعتبرها سياسيون حكماء في القارة الأوروبية، بأنها عار على القارة. أما لماذا عار؟ فلأنها حملت لواء الإنسانية والحرية طوال العقود الماضية، ولأنها تفخر بأنها الأفضل في هذا المجال، مقارنة ببقية مناطق العالم، ولأنها سنت بالفعل قوانين على مدى سنوات، تحمي ما أمكن من الحقوق الإنسانية. إذن، ضحية واحدة في المتوسط، تدفع العار إلى الواجهة. لا يمكن ضمن المعايير الأخلاقية تقديم العامل الاقتصادي على الإنساني. والأوروبيون يعرفون ذلك تماما. والانتقادات التي توجه للحكومات الأوروبية لم تعد خارجية، بل هي داخلية ونشطة أيضا، سواء من سياسيين يهتمون أكثر بحقوق الإنسان، أو من جمعيات ومنظمات وتجمعات تعنى بهذا الجانب. والحق، هناك فوضى أوروبية في مسألة اللاجئين واللجوء، بالرغم من كل الاتصالات والاجتماعات التي تمت بهذا الخصوص في الآونة الأخيرة. والفوضى ناتجة عما يمكن وصفه بـ"تضارب المصالح" بين الدول المعنية. فكل دولة تريد عددا أقل من اللاجئين، دون أن تخسر سمعتها على الجانب الإنساني. وارتفعت حدة الفوضى، في ظل الاضطرابات الاقتصادية التي تعيشها أوروبا. فزخم الأموال ليس متاحا كما كان سابقا، ولاسيما قبل الأزمة الاقتصادية العالمية. هذه الأخيرة، أنشأت شيئا قريبا من "القومية الاقتصادية" حتى في البلدان الأكثر إنسانية على الساحة الأوروبية. وكالة الإحصاء الأوروبية "يورو ستات" أعلنت في آذار (مارس) الماضي، أن عدد المتقدمين للجوء السياسي في الاتحاد الأوروبي ارتفع في عام 2014 بنسبة 44 في المائة، ليبلغ 626 ألفا. وفي العام الجاري سيرتفع العدد إلى مستويات أعلى بكثير. والمصيبة، أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك (حتى الآن) سياسة أوروبية مشتركة بشأن الهجرة. ويؤكد مختصون من الاتحاد الأوروبي، أنه لا توجد طريقة واحدة محددة لمعالجة القضية، لكنّ هناك شيئا واحدا واضحا للجميع، هو ضرورة تحديد نوع المسؤولية الواجبة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، من أجل مواجهة التحديات. والأزمة تزداد استفحالا، عندما يغيب التفويض الواضح لهذه المؤسسات لعلاج الأزمة، وهذا الأمر يتطلب مرونة من جانب حكومات الاتحاد، لمنح المزيد من الصلاحيات لمؤسساته، لأنها ستكون أكثر ضمانة واستدامة، مقارنة بالسياسات التي تتخذها الحكومات بصورة فردية. والمثير في الأمر أيضا، أن القوانين الخاصة باللجوء التي وضعتها الحكومات الأوروبية منذ عقود، لم تعد صالحة لمواجهة تفاقم الأزمة. صحيح أن بعض الحكومات أجرت تعديلات في السنوات القليلة الماضية، إلا أنها لم تصل إلى مستوى المشكلة. الذي حدث، أن كل دولة تحاول دفع الكرة إلى مرمى الدولة الأخرى. ولهذا السبب، كان اقتراح المفوضية الأوروبية بإلزامية توزيع اللاجئين على الدول الأعضاء، بمنزلة حبل إنقاذ للحكومات من الفوضى العارمة التي تعيشها. صحيح أن الصور والمشاهد المروعة لحطام السفن الناقلة للاجئين غير الشرعيين وأكياس الجثث، حركت آلة العمل الأوروبية لمواجهة الأزمة، لكن الصحيح أيضا أن هذه الآلة لا تعمل وفق ما هو مأمول منها. بما في ذلك قرار أوروبا بمكافحة مباشرة لمهربي البشر والقراصنة في المتوسط. الحصص التي يجري الحديث والاتصالات حولها، لا تمثل حلا عمليا أيضا، ولا بد من أن تكون هناك جهة تابعة للمفوضية الأوروبية مختصة بهذه المسألة فقط، لأن أغلبية حدود هذا الاتحاد مفتوحة على بعضها بعضا. فمن الناحية العملية لا تستطيع منع لاجئ في دولة ضمن اتفاقية "شنجن" من دخول دولة أخرى موقعة على الاتفاقية. صحيح أنه بالإمكان حرمانه من المعونات الحكومية، لا يمكن منعه من العمل غير الشرعي مثلا، وهذا متوافر بكثرة في أغلبية بلدان الاتحاد. ووفق الاتحاد الأوروبي نفسه، فإن عدد المهاجرين الباحثين عن الحماية في الاتحاد قفز بنسبة 68 في المائة في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، والجدال لا يزال سائدا على الساحة الأوروبية حول مواجهة القضية! لا شك في أنه يجب على البلدان الأوروبية الأغنى تحمل المسؤولية الأكبر. وهذه نقطة خلافية محورية لا تزال ماثلة ضمن الإطار العام للصورة. فبلدان أوروبا الجنوبية تعيش بالفعل أزمات اقتصادية داخلية كبرى، تمنعها من الإيفاء بتعهداتها وواجباتها حيال المهاجرين الباحثين عن ملاذ آمن لهم، من حروب لم يرتكبوها في الواقع. وإذا ما تم الاتفاق على توزيع الأعداد بما يتناسب مع قدرة كل بلد في الاتحاد، فإن أوروبا تكون قد حلت جزءا مهما من المشكلة، ولكن ليس بصورة مستدامة. الذي يكفل الحل المستدام، هو مفوضية أوروبية تمتلك صنع القرار والتنفيذ في مسألة من المفترض أنها ليست قابلة للتسييس، ولا لمعايير الربح والخسارة.
إنشرها