Author

«ولدنة» يونانية

|
كاتب اقتصادي [email protected]
" في اليونان الرجال الحكماء يتحدثون، والأغبياء يتخذون القرارات" جورج سانتايانا فيلسوف وشاعر إسباني راحل أيا كان اتجاه حل أو استفحال المشكلة اليونانية – الأوروبية، وأيا كان مصير اليونان خارج أو داخل منطقة اليورو، يبقى أن السياسيين الذين يحكمون البلاد حاليا مارسوا ما يمكن اعتباره "ولدنة سياسية" في التعاطي مع شركائهم الأوروبيين. "ولدنة" سياسية صوتية، يبقى صداها حتى اليوم التالي فقط. فمثل هذه "الولدنات"، لا تترك أثرا له قيمة لا على المستوى الآني ولا على المدى البعيد. بل في غالبية الأحيان تسهم في تأزيم ما هو متأزم أصلا، وفي نشر ما أمكن من أجواء عدم الثقة، ليس مع الأعداء بل مع الشركاء أنفسهم الذين يمثلون جهة الإنقاذ الأهم، بل تكاد تكون الوحيدة لليونان. كثيرة هي هذه الحالات التي حدثت في التاريخ الحديث، وانتهت وفق معايير القوي، ومن يملك آليات التغيير، بصرف النظر عن عدالة أو ظلم هذه المعايير. رئيس الحكومة أليكس تسيبراس ومعه مجموعة من الوزراء الذين ما زالوا يتوهمون أن اليونان تملك مصيرها الاقتصادي، من خلال تحريك الشارع وفق ما يرغبون لا استنادا إلى ما يملكون حقا، راهنوا جميعا على أن الأوروبيين (ولاسيما الألمان والفرنسيين) سيرضخون في النهاية للموقف اليوناني في حل كارثة الديون التي تعدت 650 مليار يورو. وراهنوا بغباء شديد، على أن دول كبرى كألمانيا وفرنسا لن تسمح بخروج اليونان من منطقة اليورو، لأسباب تتعلق بهيبة المنطقة الأوروبية. وهم من هذه الزاوية يستطيعون أن يضغطوا بصورة غير مباشرة على أصحاب القرار الأوروبيين في المسألة اليونانية. لعبت الحكومة اليونانية (غير المسؤولة) بفريق ليس فيه حارس مرمى ولا حتى مدافع. هناك فقط مجموعة من الهجوم تحركهم أصوات الجمهور. لكن مهلا.. ماذا يملك هذا الجمهور الذي ساند حكومة غير مسؤولة (وإن التزمت ببرنامجها الانتخابي الخيالي) كي تتحول الأصوات إلى أفعال؟ الجواب ببساطة لا شيء. نعم لا يملك شيئا. ليس لأن الفرد اليوناني لا يستطيع سحب أكثر من 60 يورو في اليوم من المصارف، بل لأن المصارف عجزت حتى عن توفير الـ 60 يورو هذه! جمهور يقول الطبيب للمصاب فيه بمرض السرطان، إذا استطعت أن تعيش لعدة أيام، ربما وجدنا لك سريرا في المستشفى لتلقي العلاج! جمهور في بلاد يتحدى، لكنه لا يستطيع تسديد فواتير شركات الأدوية. جمهور في بلاد خفض فيها التجار أسعار السلع إذا دفعت نقدا. والسبب ببساطة أن مستوى الثقة بالبطاقات الائتمانية، يوازي الثقة الأوروبية بالحكومة اليونانية! جمهور لا يمكنه تحويل الأموال من بلاده إلى الخارج، بصرف النظر عن تدني قيمتها! هذا هو الجمهور الذي قال لا في الاستفتاء الخاص بحزمة الإنقاذ الجديدة التي توفرها منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي لليونان. وهو الجمهور نفسه (يا محاسن الصدف!)، الذي وافق للحكومة اليونانية على الخطة التي قدمتها للدائنين، وكل بند فيها يضرب كل بند انتخابي أوصل رئيس الوزراء ووزرائه إلى الحكم في أثنيا. ما نفع الـ "لا" إذا كنت ستنحني أمام المطالب الأوروبية، مرة أخرى بصرف النظر عن محاسنها ومساوئها. لا يمكن أن تعاند كيانا كنت متلهفا لتكون جزءا منه. كما أنه لا يمكنك أن تدعي امتلاك أي نفوذ أو قوة على الساحة الأوروبية، طالما أنك عاجز عن تسديد فواتير أدوية مرضاك. دون أن ننسى، أنه آن الأوان، لأن يعرفوا، أن تاريخ اليونان لا يصنع خبزا، ولا يعصر زيتا. قدمت الحكومة اليونانية المعاندة اقتراحات للحل، تكاد تكون مطابقة للشروط التي وضعها الدائنون. والمثير أن البرلمان اليوناني أيد على الفور ليس فقط الاقتراحات، بل مقترحات حكومة تسيبراس للإصلاح. وهذه المقترحات تتضمن كل شيء تقريبا يتعارض مع مبادئ وأفكار ووعود الحكومة اليونانية. من الخصخصة إلى زيادة الضرائب مرورا بإصلاح نظام التقاعد، وخفض الإنفاق العسكري، وطبعا شاملا مسألة الدين العام المروع. يعني أن هذه الحكومة تنازلت برعونة شديدة عن كل مبادئها ووعودها للناخبين، مستغلة روح التمرد الطبيعية الموجودة لدى الناخب اليوناني، الذي يعتقد أن أوروبا التي يتمسك بها أكثر من الأوروبيين أنفسهم.. هذه الـ "أوروبا" تعاديه. ماذا فعلت الحكومة أيضا؟ عمقت الشك والريبة بين أثينا وكل العواصم الأوروبية الأخرى، في وقت تحتاج فيه إلى أي شيء يقلل منهما. "الولدنة" السياسية اليونانية، أنست "المتولدنين" حقائق كثيرة، بما في ذلك، أن كل الناتج الإجمالي المحلي لبلادهم لا يزيد على 1.8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لدول اليورو. أي أنهم ليسوا مؤثرين اقتصاديا، ولا يمكنهم أن يهددوا، في الوقت الذي يجب عليهم إيجاد خط دفاع منطقي وعملي للوقوف أمام التهديدات التي يتلقونها ليس في الأيام الماضية، ولكن منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، التي فجرت معها "قنابل" اعتقد البعض أن فتيلها لا وجود له. أنست "الولدنة"هؤلاء أنهم في الواقع لا يستطيعون أن يكونوا بمنزلة الشريك المخالف، وهم لا يملكون قيمة المخالفة إذا ما ضبطوا.
إنشرها