العالم

المثقف العربي والمشهد السياسي .. خذلان أم تغييب؟

المثقف العربي والمشهد السياسي .. خذلان أم تغييب؟

لا غرو أن العمل السياسي لا يكون له معنى إذا لم يضع المثقف بصمته فيه، لأن الثقافة هي الضامن الأساسي لطهر السياسة وعفتها. وإذا انفصلت السياسة عن أصلها الثقافي والفكري والأخلاقي، طغى ـ لا محالة ـ على من يمارسها النفع الذاتي والاقتصار على خدمة الأجندة الأيديولوجية الحزبية، خاصة إذا كانت عقلية السياسي رهينة لما تقرره القيادة الحزبية، ومُنْصَاعَة لـ "نظرية القطيع" التي تعمل المنظمة السياسية على ترسيخها. إن ما يعيب سياسة العصر الحاضر أنها موسومة بالسمات التالية: - إنها سياسة ارتجالية غير محددة المعالم، غوغائية، يتصارع فيها الجميع (الأغلبية) ضد الجميع (المعارضة). - إنها سياسة الاتكالية واللامبالاة، فهي سياسة يعتمد فيها السياسي على الآخرين سواء كان هذا الآخر هو الحزب أو الحكومة. -إنها سياسة جامدة يسودها تكرار البرامج واجترارها وينقصها الإبداع والتجديد. -إنها سياسة ركب سفينتها العامة والخاصة، فأراد البعض الاستسقاء من الأعلى واحتاج الآخرون إلى خرق السفينة حتى لا يمروا على من فوقهم، فغرقت السفينة وطفقوا يلقون اللوم على بغضهم البعض. -إنها سياسة ـ في غالبها ـ تتناقض فيها الأقوال مع الأفعال وتستفحل فيها ظاهرة "الكلام الكبير". لهذه الظاهرة جعل البعض يصفنا بأننا "حضارة كلامية" أو "حضارة حنجرية" أو مع التطور العلمي "حضارة ميكروفونية". فما يقال في "الخطابات السياسية" لا يقابله أي شيء محدد في "الواقع المادي". فكل ما أصاب الواقع السياسي من عبث في المواقف فساد في الرؤى والتوجهات، مَرَدّه غياب المثقف عن المشهد السياسي وغيابه هذا سببه أمران اثنان: ـ الأول: المثقف غير مقبول في أرض السياسي، لأنه مصدر إزعاج يتدخل في برامجه بالتقرير تارة وبالنقد تارة أخرى، فالسياسي لا يقبل "حشرية" المثقف. فالعمل السياسي قائم على فرض الرؤى والأفكار وتمرير ما تقرره القيادات السياسوية، إنها الطاعة والانضباط لعقيدة الحزب. أما المثقف فهو مجبول على الحرية، حرية النقد، حرية الفكر، حرية الموقف... لا يذعن لنظرية القطيع. وقد عد صلاح بوسريف: المثقف صاحب أفكار، وصاحب مشروع ثقافي، كما يستوعب الفكر، أو يسعى لفهم ما يجري حوله من خطابات، فهو يستوعب السياسة، بوضعها في سياق فكري أَوْسَع، ويجعل السياسة تُنْصِت للثقافة أو للفكر وليس العكس. كما أنه ليس مُقيما في السياسة، فهو عابر فيها وفق ما أشار إليه ماكس فيبر في كتابه "العالِم السياسي"، أو يذهب للسياسة لخدمة الفكر. ـ الثاني: مغادرة المثقف العمل السياسي، بعدما تَبَيّن له أن خطاباته لا يسمع لها داخل الحزب، وربما خشي على نفسه تصنيفه في لائحة (المثقفين العضويين) الذين يعملون وفق توجيهات أيديولوجية معينة. في هذا الصدد يعتبر المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي أن المثقف ليس تابعا ولا معنيا بما يقوله غيره، فهو مثقف جماعي: "مثقف يخرج من سديم السياسة بمعناها الحرفي ويدخل إليها من خلال وعي ثقافي وفكري أشمل وأوسع، وهو يضع يده في عجين السياسة، أو يسعى برأيه فيمَا لَهُ علاقة بالشأن العام". عموما، فالسياسي يعمل على إِبْعاد المثقف لأن الفرق بين الاثنين يكمن في منهجية التفكير، فحين تصير الأيديولوجيا معتقدا راسخا غير قابل للنقاش عند السياسي، فهي عند المثقف صناعة عقلية بشرية قابلة للأخذ والرد والانتقادات. فحاجتنا اليوم إلى وجود أحزاب تعيد تحيين مرجعياتها وتحدث انقلابا على أفكارها ومفاهيمها التاريخانية، التي كانت صالحة في زمن غير زماننا. وما أحوجنا إلى مشاركة المثقف في إنتاج المفاهيم وفي تدبير وتسيير الشأن العام. وتكون بين الطرفين ـ المثقف والسياسي ـ علاقة تكامل لا علاقة صراع أو تبعية، بحيث يمكن حَبْك نوع من الاستقلالية على مستوى الأفكار والطموحات، لأن المثقف يمتاز بنظرة البعد الاستراتيجي بينما السياسي ينظر إلى المستقبل القريب. فلا بد من مصالحة آنية بين الطرفين لتجاوز الجمود الثقافي والانحطاط السياسي. لأن فصل الثقافة عن السياسة يضر بها كثيرا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم