Author

لا تتبع شغفك

|
لا تستغرب إذا قلت لك إن النصيحة التي تقول "اعمل ما تحب" أو "حاول إيجاد فرصة عمل في المجال الذي تحبه" لم تعد بذات الزخم والجودة، بل هناك من التدوينات والمقالات ما يعتبرها نصيحة سيئة ومضللة! يزداد الأمر أهمية إذا عرفنا أن هذه النقطة بالذات يتم التعامل معها وكأنها الحلقة المفقودة في مجتمعنا، فنجد أن معظم نصائح التطوير المهني المبكر تتمركز حول إيجاد المجال الذي نحب القيام به، وتنصح الشباب باكتشاف أنفسهم والبحث عن مواطن الشغف، بافتراض أن إحباط الشخص في عمله ــــ وتدهور العلاقة بين الشخص وتخصصه ـــ يعود لمجرد افتقاده الحب والشغف! نعم هذا ما يفترضه كثيرون حولنا، فالإنتاجية متدنية، لأن الارتباط ضعيف. والارتباط ضعيف لأننا وجدنا أنفسنا في تخصصات ومجالات لم نختَرها ولم نكن نحبها من الأساس. بل نحن نصل إلى مراحل متقدمة في حياتنا ولم نكتشف ما نحب بعد. وهذا صحيح إلى حد ما، فالوعي الذاتي والاكتشاف المبكر للاهتمامات والسمات الشخصية مشكلة مؤرقة، تؤثر في قدرتنا على التخطيط واتخاذ القرارات الشخصية الملائمة. ولكن، إصلاح هذا الأمر لن يحصل بالبحث عن الحب المفقود، بل حتى معرفة المحفزات ومصادر الشغف لن تكفي. يقول جيف هايدين محرر مجلة الأعمال INC "إن أسهل ما يمكن اللجوء إليه أثناء تعليم الطلبة العمل التجاري هو الحديث عن الشغف واتباع الشغف، وذلك لأن الجميع يحب الاستماع إلى مثل هذه العبارات، لكنها في الحقيقة عبارات مميتة، حيث يفشل عديد من الأعمال بسبب تركيز أصحابه على أنفسهم وما يحبون، وليس ما يمكن فعله في أرض الواقع. لا تقابل الوظائف في معظم الحالات الشغف ولا تستجيب له، بل إن ما يحدث هو مجرد محاولات متواضعة للربط بين هواياتنا وأعمالنا، تؤدي في النهاية إلى تضييع الوقت وخيبة الأمل. نحن نبالغ في التعامل مع هذا الخيال التحفيزي المؤثر، وهذا ما يجعلنا نقع في معضلات جديدة، مثل الذي يقول "لقد اكتشفت ما أحب، لكنه غير موجود لدينا"، أو تجده يُعجَب بمجال ما ولا يستطيع العمل فيه، لأنه لا يدر ما يكفي من المال أو لا يرضي مجتمعه. لا تتبع شغفك ولكن اتبع عطاءك، هذا ما يقوله بين هورويتز مؤسس شركة أنديرسون هورويتز الاستثمارية. ويحدد هورويتز الأسباب بوضوح كالتالي. أولا، يصعب تحديد أولويات الشخص التي تسيطر على شغفه ومحبته، فهي على الأرجح متعددة ومتغيرة. ثانيا، ليس بالضرورة أن نجيد ما نشغف به "الحب لا يكفي للإتقان". ثالثا، التركيز على الشغف فقط يعكس نظرة "أنا" مركزية جدا. ويذكّر هورويتز بمخطط الدوائر المتقاطعة للنجاح، الذي يحصره بين الشغف والمهارة والسوق (أو الواقع)؛ وهكذا لا يشكل الشغف سوى ثلث المعادلة. أن تتبع عطاءك، أن تتبع تجربتك، هذا ما يتحدث عنه أمثال جيف هايدين وبين هورويتز، فكرة البناء على التجارب السابقة وتطويرها والتركيز على النجاحات الحقيقية التي برهنت وجود المهارة وحاجة الناس لك مع ما يكفي من الشغف والحب. والملاحظ هنا أن وقود النجاح ثلاثي العناصر يشكل التعلم فيه والتواؤم مع السياق نفس الأهمية التي يولدها الشغف. الشغف وحده لا يكفي، والعطاء المبرهن على أرض الواقع هو فعليا ما يمكن الاعتماد عليه. تحديد البوصلة بناء على العطاء وليس الشغف فقط لا يصبح ممكنا إلا بالعمل في أوقات الفراغ والتدرب المبكر وخوض مختلف التجارب والاهتمامات. وقد تساعد القراءة ومشاركة الآخرين ــــ وممارسة بناء العلاقات الإيجابية ــــ أساليب محفزة تفتح أبواب العطاء والممارسات التي تقود الشغف وتنميه بطريقة صحية، وليس العكس، شغفا يقود كل شيء نملكه إلى المجهول. عندما تقيس اهتماماتك وقدرتك على الاستمرار في عمل أو تخصص أو مجال بعطائك فيه، فأنت تجعل نجاحك مزدوج التأثير بمجرد التفكير فيه، نجاح خاص يشملك ونجاح عام يغطي من يستفيد من عطاءاتك. التحفيز الذاتي باعتبار قدراتنا وتجاربنا أكثر أنواع التحفيز مسؤولية، وأضمنها نجاحا وأفضلها اتقاء لمغبة الشغف المبالغ فيه الذي قد يتحول في لحظة ما إلى شكل من أشكال الأنانية. من السهل أن ندعي أننا نملك ما يكفي من الشغف للقيام بشيء ما، لكن من الصعب القيام به كما يجب، فالشغف وحده لا يمنحنا كل مقومات التنفيذ الناجح. بينما من السهل إتقان مهارة تنمية الشغف لحظة القيام بالعمل، حينها سيصبح النجاح مضاعفا وسيتم القيام به كما يجب. لذا تتعدد مواهب الناجحين وتكثر أنشطتهم، بينما يحشر غيرهم في زوايا ضيقة تقل فيها خياراتهم، على الرغم من أنهم يعتمدون على الشغف.
إنشرها